وقفة لازمة في زمن التيه


محمد زكريا السقال

لا يختلف اثنان على أن الواقع السوري، وما آلت إليه الأمور من دمار وتعقيدات ومخاطر تطبق عليه، بات بحاجة لوقفة، وقفة تسترجع كل الإخفاقات والارتجالات والهرطقات السياسية التي أودت بالسوريين إلى هذا الخراب والعبث، قد يكون الواقع والتداخلات التي أورثها الطاغية وارتباطاته، أكبر بكثير من قدرات السوريين، إلا أن قراءة مُعمّقة وفاحصة، وعلى ارتباط بالوطن وهموم الشعب، قد تجعلنا نجترع حلولًا وآفاقًا للخروج من هذا الضياع.

إن قراءة معمّقة لنقاط الضعف والقوة لدى النظام السوري الاستبدادي الفاسد، تجعلنا ندرك أنه لم تكن لديه خيارات سوى جر الشعب إلى الحرب، وإذا أوقد سعارها طائفيًا سيكون الرابح، والقادر على اللعب بأوراق كثيرة، منها الإرهاب والأقليات وخوفهم، مُغلفًا هذا باسم هجمة إرهابية، وقد نجح في هذا؛ مستغلًا ضعف وخلافات المعارضة التي ليست بجديدة، بل هي قديمة، صلبها الأساس القمع المفرط لها، ما أفقدها إمكانية بلورة نفسها، فسيف النظام المُسلّط عليها أنهكها وجعلها واهنة، تنهشها الأمراض والعقد، وصدّرت عقلًا عبث بكل خطابه وثقافته وهو يجتر خيباته.

جاءت اللحظة التاريخية ولم ترحم أحدًا، وكم توهم العقل، أنه بتفكيره المسطح، أكان بالطرف الذي توهم أن النظام سيرضخ ويوقف القمع والقتل وجر المجتمع للقتال، مع رفعه شعارات بليدة عنينة مسطحة، تنادي بوقف العنف وعدم الانجرار للطائفية وعدم الاستعانة بالخارج، وهو يتراقص أمام النظام، وطرف آخر أسرع يستعين بالخارج المتربص الذي لا يمتلك أي مصلحة بانتصار الشعوب ونيلها حريتها. هكذا انقسم العقل المعارض، وترك الشارع نهبًا للقتل والتنكيل ولتدخلات مالية وسياسية بأفق متطرف لا حداثي، عمل على تشويه الحراك الشعبي السوري، وسرقه لاتجاهات لا تبني ولا تصنع وطنًا، لمجتمع موحّد على القانون والدستور والقضاء العادل، وحاميته دولة تجسد مواطنته وحريته وكرامته.

اليوم وواقع سورية يسوده الدمار والقتل والتشريد، ولا يحدده ويرسم مساره سوى القوى التي تتدخل به، وتسرق قراره ومستقبله، ما زالت المعارضة على حالها من التفكك؛ ما يسمح لكثير من القوى والدول العبث بها باسم اختلافاتها، يُقابلها واقع القوى الإسلامية الساكنة التي تتصدر الميدان، وتتبنى خطابًا مُفتِّتًا مشحونًا بالعدائية، لا يُطمئن مكونات المجتمع. وفي المقابل يبقى تعنت النظام المجرم في الذهاب بسورية عميقًا نحو الارتهان لإرادة من يبقونه على قيد الحياة، فبروز إيران دولةً تُهدد المنطقة وتعمل على تفتيتها بمشروع طائفي ثأري، في الوقت الذي تعيد روسيا فيه حضورها ونفوذها بعقل امبراطوري، يحاول حل مشكلاته الدولية وأزماته التاريخية على حساب الدماء السورية، إضافة الى صعود اليمين المغالي في أميركا عبر ترامب، وحساباته المالية للشؤون الدولية، ضمن توجه يُبشّر بمزيد من السوء في التعاطي مع قضايا الشعوب وحرياتها.

ضمن هذه اللوحة، ما زالت المخاطر تحيط بالمسألة السورية وحالتها حرجة من كل المناحي، لذا لابد من وقفة جادة تعمل على إنقاذ سورية، ولن ينقذها إلا إجماع السوريين ووحدتهم على وطنهم، ولكن كيف؟

“وحدة السوريين وإجماعهم على وطنهم”، هذه المقولة التي يُرددها كثيرون، إلا أنهم ما إن يلفظوها حتى تتبخر تحت واقع من العنجهية والترف والأمراض التي حقنها تاريخ من التهميش والاستبداد والفساد.

على ماذا يتوحد السوريون؟ وما برنامج وحدتهم؟ وكيف يستطيعون إحراج العالم الذي لا يفهم سوى لغة المصالح؟ وما الذي يسمح لهذا العالم بالعبث بالمسألة السورية، ويُكبّد أهلها ثمنًا باهظًا من القتل والتدمير والتشرد؟ ومن المعني وصاحب المصلحة الأساس الذي عليه خوض نضال حقيقي مع الذات، ومع الواقع لإنجاز مشروع التوافق السوري، وجمع شمله؛ لإتمام هذا المشروع الوطني؟

بالحديث عن مشروع وطني لا بد من تحديد سمات هذا المشروع ومناخه ومستقبل أهدافه، وإذ إن المشروع يحدد هموم ومصالح السوريين ومستقبل بلدهم وروابط تعايشهم، فلا شك في أن هذه السمات تُحدد مواصفات ومهمات وإجابات على الواقع السوري، لقد هُزِمت البرامج الكثيرة التي كانت تفتح نوافذها وتشرع مساحاتها لاستيعاب حقوق وواجبات المواطن السوري، لهذا فأهم السمات الأساس لهذا البرنامج هو الوطنية والديمقراطية، يتعامل بوعي وقراءة موضوعية للواقع السوري، ويُركز نضالاته بمراحل وخطوات تعيد إجماع السوريين، وتُلغي الحواجز والعقبات التي فرزها الصراع وخاصة التداخلات الإقليمية الدولية التي ألغت الصوت والقرار الوطني، إذ بات رهينة مصالح أطراف عالمية وإقليمية ومشروعاتها.

على السوريين، وتحديدًا الديمقراطيين، فتح ملف واقعهم وتشريع أبوابه لنقد خطاب وسلوك ستة أعوام من المواجهة مع نظام طاغية مجرم، وعبث دولي إقليمي بمدنهم وحياتهم وتشريدهم، على مثقفيه وطلائعه نقد مسار وسلوك وخطاب آل إلى خراب بلدهم وسرقة أحلامهم ببناء وطن يعيد إنسانيتهم ومنازلهم، محصنًا بالدستور والقضاء والقانون، يصون ويحمي حرياتهم الخاصة والعامة.

هل من تسوية تاريخية تواجه السوريين وعليهم إدراك جوهرها ودخول مناخها؟ وهنا نعني بالتسوية التاريخية مناخًا من المصالحة مع الذات وتلمّس مواقع الخطر، ووعي دخول العفن والاختراق كي ننتج مستقبلًا يتجه إلى الإشراق والتعايش، كي نتقدم للأمام ولا نعود إلى الوراء، بمعنى نبش وسخ الماضي وعفنه ودمائه وتضحياته وحماقاته؛ كيلا نرجع إليه.

بهذا المعنى، يجب أن يُفهم الحل السياسي الذي يجب أن يتنطح السوريون له، بمعنى نضال شرس وعنيف بالخطاب واللغة والممارسة على الأرض، كي يتوافقوا على هذا الوطن وإبعاد كل الأيادي التي تحاول وقف هذا التوافق، وتلمّس كل السوريين وشعورهم أنه آن الأوان لتوافقهم على حل لا يفرط بالتضحيات التي بذلت من أجل حريتهم وكرامتهم، وتوحدهم على الدولة التي يجب على المجتمع الدولي ضمان الانتقال إليها، ما من خيار سوى هذا التوافق والتوحّد على حل سياسي يُجمعون عليه ويحمونه على الأرض، ويُطالبون المجتمع الدولي بتطبيق قرارته التي ألزم نفسه بها، وبهذا المعنى، يكون إجماع السوريين للجلوس مع عدوهم وهم يحملون خطاب المستقبل ووحدة مكونات المجتمع المضمونة والمكفولة والاستعداد لنزع كل ما أورثته هذه الحرب من أمراض وضغائن وموبقات، وذلك بفضحها ليس للثأر منها بل لكيلا نعود اليها.

من هنا فإن أي خطوة باتجاه هذا المشروع عليها:

– أن تبتعد عن الإرادوية، وتجلي الإرادة القائمة على وعي طبيعة الصراع القائم بأبعاده الثلاث، وتمثيله مصالح السوريين وأحلامهم وجمعهم على وطن بدولة مواطنة.

– نقد مسار ست سنوات من الارتجال لم تُفصح إلا عن ضياع القرار الوطني وتدمير الوطن والعبث بحياة المواطنين وأمنهم.

– فتح ملف المهمات والأسئلة التي مازالت تشكل حواجز وعقبات من أجل الإجابة عليها، ووضع برامج لحلها.

– التصدي للإسلاموية باعتبارها مخلفات ماضوية تشوّه الدين وتحصره بالسلطة، مشوهة روحه وإنسانيته باعتباره معتقد روحي يقوم على التعايش والقيم والحقوق، بما يعني أن الإسلام شريك وطن وقاعدة شعبية ببناء حريته وكرامته، وليس استبداد سلطة وإلغاء للآخر.

– إعادة المكانة للمسألة التنظيمية القائمة على الوعي والتخطيط والحرية والتمثيل، بعيدًا عن الاحتكار والتسلط، لبناء مؤسسة وطنية تحيط بالهمّ السوري، وتتحصن بإجابات على ما يواجهه بطريقة ديمقراطية تمثل السوريين.

هل هذا الفهم العملي لتوافق السوريين قائم مع ما يُدبَّج له من مؤتمرات ولقاءات، أم أنه حالة من العبث والفراغ يتصدى لها الفاشلون والواهمون والمزيفون؟ أعتقد أن هؤلاء يجب أن يُبعدوا عن واجهة ثرثرات الحل السياسي، فهم فاشلون مُجرّبون وعليهم أن ينزووا، وإذا امتلكوا وطنية عليهم أن يدفعوا للتوافق دون عقد الزعامة والترؤس.

لهذا؛ فإن لقاءات لا يُدرك السوريون بها ضرورة توافقهم، وبناء ومؤسستهم القائمة على رؤية واقعية صحيحة، وشفافية خطواتهم وسلوكهم النابعة من وعي الفجيعة ونزيف الدماء، ستبقى لقاءات لاجترار الادعاء والسير في تيه الألم.




المصدر