الثورة السورية بين وطنية حرَّرت ومشيخة فرَّطت


هشام أسكيف

شاع خطأ بين أوساط المحللين والمنخرطين في الشأن العام، القول بأن النظام السوري “اختار” الحل الأمني للتعامل مع سلمية الثورة، وفي هذا القول مغالطة كبيرة؛ لأن النظام ليس لديه خيارات ليختار منها، فهو ليس لديه؛ بوصفه قوة استبدادية عنفية بطبعها جرمية بفعلها؛ غير الحل الأمني العسكري، ولا يتقن سواه.

بعد دورة العنف الممنهج الذي اتبعه النظام حلًا وحيدًا لمواجهة أول حالة انتفاضة مكتملة الأركان، نضجت فيها الشروط الموضوعية لقيامها، بعد زوال مملكة الأسد الأب، اضطر الشعب السوري، على الرغم من درب الآلام الذي مشى فيه غير آبه بالتضحيات، إلى حمل السلاح بعد أكثر من ستة أشهر من المظاهر الثورية السلمية “الغاندوية”، اقتلع بها الاعتراف الدولي بأن ما يحدث في سورية ثورة شعبية.

حمل السوريون السلاح، فتفاجأ العالم أجمعه بهشاشة جيش النظام وسرعة تفككه، حتى هو نفسه ارتبك في بداية ظاهرة الانشقاق، وكذّب واحتال وحار في تبرير هذا التفكك؛ لأنه سريع وصادم، خاصة أن المنشقين، أفرادًا وضباطًا وصف ضباط، شاركوا بفاعلية في العمل المسلّح المؤمن بالوطن والعمل الوطني؛ فـحرروا -مع غيرهم- مدنًا وبلدات، ثم بدأت ثورة الحواضر، فشرع الثائرون في تحرير الحواضر، ومنها حلب التي اكتسحت المقاومة الثورية فيها أكثر من 80 بالمئة من مساحتها، ريفًا ومدينة.

لم يرق هذا المشهد الوطني لا للنظام، ولا للنظام العالمي الذي يُشكّل له نظام آل الأسد مخلبَ القط القذر، و”بلاك ووتر” مُنظّمًا في خدمته، فما كان من هؤلاء إلا أن يعيدوا إنتاج فكر هجين، نزع عن نفسه صفة الوطنية، وارتدى عباءة شعار دسه أصحاب الأهداف الخبيثة “قائدنا للأبد سيدنا محمد”. هذا الهتاف ذو الصبغة القدسية، إذ لا يستطيع أحد منعه، شعبوي لدرجة يمكن أن تورد من يقاومه إلى المهالك، أو من يُحاول شرح أبعاد خطره.

مهّد هذا الشعار -تاليًا- الطريق لظهور المهاجرين الذين أتوا لنصرة الدين، بل كان الباب العريض الذي دخلت منه “طبقة المشيخة” التي بدأت في تحويل الوطني إلى فئوي، والسوري إلى شامي، والبلد إلى أمة، والعَلَمْ إلى راية، وبدل السلام الوطني “حماة الديار” بات لدينا “صليل الصوارم”.

امتدت سلطة الكهنوت بسرعة كبيرة؛ حتى أعلنت “داعش” قيام دولة الخلافة في العراق والشام، وطبعًا كان الشعار ذاته مُبرِّرًا ومكافئًا نوعيًا لإعلان كهذا، إذ حضر الوجدان الشعبوي لاستقبال ما أُعلن على أنه مُقدّس، وبدأ الحديث عن أحاديث “الملاحم وأرضها”، و”حروب آخر الزمان” التي -بالطبع- ستكون وسيكون عندها قد استوفت شروطها بذاتها، لا بليّ عنق التاريخ وليّ عنق الحديث والنص المقدس؛ كي يُطابق الحالة الفكرية العبثية والمشبوهة والمرتبكة.

لم يولد “داعش” فجأة، بل ولد مع ولادة ودس الشعار المقدس “قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد”.

الخلافة بدون مكياج، وهنا يحتم علينا شرح معالم الخلافة، كونها باتت لديهم هدفًا ووسيلة إيهام ديني سلطوي، لا وسيلة حكم، لكن سنفرد -الآن- الكلمات؛ للحديث عن المشيخة و”داعش” وسلطة الكهنوت.

بعد أن رأينا حالة وطنية حررت، كان من المفترض أن تُكمل الحالة العقدية؛ لأنها، وبحسب زعمهم، أتت لنصرة هذا الدين، فتوقعنا أن تُكمل تحرير البلاد، ولكن ما حدث شيء آخر تمامًا، إذ لم تقم إلا بتحرير المُحرّر.

قفزت “النصرة” من قارب “داعش”، لا لأنه غارق، بل لأن تنافسًا محمومًا على السلطة برز بين أفّاقين، مجهولي النسب، الجولاني وأبو بكر البغدادي، فكان معظم “الثوار” يظهرون بعد التحرير بأسمائهم الصريحة، وخاصة “الثوار” الذين حملوا السلاح من الضباط المنشقين، إلا أولئك، فظلوا يعملون بأسماء وهمية مجهولة، ويجب على السوريين اتباعهم، والامتثال لأوامرهم، وبدأت مُركّبات النقص تظهر، وأمراض المزايدة تنهش لحم الثوار، وبدأت تتغير أسماء الكتائب والفصائل؛ لتكون في لاحقة ولصاقة الماركة المسجلة “الإسلامي”، وباتت أسماء الصحابة من معلومي السيرة إلى مجهوليها تنتشر، ولعل الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الجيش الحر هو الانجرار وراء المزايدة ومجاراتها، بدفع التهمة عن نفسه بأنه “ليس علماني”، وعلى الرغم من كل ما فعله ليدرأ عن نفسه هذه التهمة، إلا أن التسمية التفريقية ظلّت، تلك التسمية التي طالما اتسمت بنوع من التعالي على “الكفرة” أو “المرتدين” أو في أحسن الأحوال قليلي الدين الذين ينهزمون عند اشتداد المعارك، وهذا طبعًا جزء من “البروباغندا” التي مورست باسم الدين والله، وانتشرت التسمية بين فصائل من الجيش الحر وفصائل إسلامية، وبدأت سلطة المشيخة، تتعمق وتتجذر، حتى بات “الشيخ” أقرب إلى قدس أقداس الفصيل، وصاحب الأمر فيه، إذ إن كلمة منه تضعك في خانة “الردة” أو “الكفر” أو “مناط الردة ومناط الكفر”.

أصبح المُحرَّر يرزح تحت سلطة الكهنوت المقدس، والمشيخة التي فرّطت، بينما استمرت باقي المكونات بالمزايدة، على الرغم من كل ما فرّطت به، فكانت نهايتها في حلب.




المصدر