مياه العاصمة.. احتكار وغلاء وظلم في التوزيع ..وتوقّعات بطول فترة الصيانة


“حتّى لو عادت المياه إلى مجاريها فإنها لن تعود بالضرورة صالحة للشرب” تلخّص هذه المقولة أزمة المياه الحادة التي شهدها الدمشقيون نتيجة “تدمير جزئي” تعرّض له نبع المفيجة المغذي لمعظم أنحاء العاصمة، وفق ما يشرح مهندس مدني رفض ذكر اسمه لـ “صدى الشام”، في حين انتشر “تُجّار المياه” في العاصمة وأدت نشاطاتهم الربحية إلى تضاعف سعر المياه الصالحة وغير الصالحة للشرب.

هذه الأوضاع أدت إلى أمراض وأوبئةً انتشرت بين السوريين نتيجة شربهم مياهاً غير صحية، في وقت أصبح فيه تعقيمها أمراً صعباً  بسبب أزمة الغاز والكهرباء اللتين تزامنتا مع أزمة المياه.

في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول الماضي انتشرت عدّة صورٍ على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر دماراً واسعاً طال منشأة نبع الفيجة المائية، وسط أنباء عن أن النبع تعرّض لقصف من الطيران الحربي التابع لنظام الأسد، وبعد ساعاتٍ على انتشار هذه الصور انقطعت المياه بشكلٍ كامل عن حوالي 5.5 مليون مواطن سوري مقيمين في العاصمة، وبدأت أزمتهم تتفاقم يوماً بعد يوم دون أن يكون هناك أفق لحل قريب بل اقتصرت حكومة النظام على حلول جزئية لا بل إن المواطنين في دمشق بدؤوا يشعرون أن هناك من لا يريد أن ينتهي هذا الوضع خصوصاً أبناء الأحياء الهامشية.

 

تجارة مربحة

فجأةً ودون سابق إنذار، قفزت أسعار صهاريج مياه الآبار غير الصالحة للشرب حتى الضعف، فيما ارتفع ثمن عبوات “المياه المعدنية” الصالحة إلى أرقامٍ خيالية.

يقول مواطن يعيش في دمشق لـ “صدى الشام”: “إن صندوق المياه المعدنية من فئة 6 ليتر وصل ثمنه إلى مبلغٍ يتراوح بين 800 – 1000 ليرة سورية”.

وأضاف أن أسعار المياه غير الصالحة للشرب لم تنجُ من من موجة الاحتكارات، إذ بلغ سعر صهريج المياه من فئة 6 آلاف ليتر 20 ألف ليرة، والصهريج من فئة 10 آلاف ليتر 30 ألف، حيث بات تحصيل المياه أمراً غاية في الصعوبة داخل العاصمة.

يأتي ذلك في وقتٍ يعيش أهالي العاصمة السورية ظروفاً صعبةً جراء انقطاع المياه عنهم بسبب قصف قوات النظام لنبع الفيجة.

عبد الفتاح، وهو صاحب سوبر ماركت في منطقة البحصة ذكرّ أن سعر كرتونة المياه المعدنية ارتفع بعد انقطاع المياه إلى 900 ليرة، بعد أن كان ثمنها 550 ليرة قبل أزمة المياه.

وأرجع عبد الفتاح السبب في ذلك إلى عملية احتكار يقوم بها “التجّار الكبار”، وذلك عبر تخزين المياه المعدنية الموجودة لديهم وإخراجها عند اشتداد الحاجة إليها ليتم بيعها بأسعارٍ مرتفعة، معتبراً أن النظام لا يأبه بوضع ما يقارب 6 ملايين مواطن داخل العاصمة، بقدر ما يهمّه تحقيق نصرٍ سياسي.

وأضاف أن استمرار انقطاع المياه ودخول مياه ملوّثة غير صالحة للشرب في مناهل التوزيع دفع معظم السوريين للاعتماد بشكلٍ رئيسي على المياه المعدنية باهظة الثمن، وهو ما زاد العبئ الاقتصادي والضغوط المعيشية عليهم.

تتساءل منار، التي تعيش في العاصمة عن سبب ارتفاع سعر كرتونة المياه من 500 إلى 1000 ليرة دفعة واحدة، وتقول المرأة الأربعينية لـ “صدى الشام”: “إنها إذا اشترت مياه الشرب المعدنية بسعرها الحالي، فإن 60% من راتبها سيذهب ثمناَ لها”، معربةً عن استيائها من احتكار أي مادة يتم فقدانها.

 

 لا عدالة في التوزيع

حتى الآن لم يتخذ النظام أي خطوة ملموسة لإغاثة السكان الذين انقطعت عنهم المياه جراء عملياته العسكرية، باستثناء جداول يومية لصهاريج مؤقّتة تنتشر في جزء محدّد من أحياء العاصمة وما تلبث أن تغادر.

هذه الصهاريج يبدو أنها حلّ غير ناجع، فلليوم الخامس على التوالي يحاول غسان ابن حي الزاهرة القديمة تعبئة بعض العبوات من هذه الصهاريج دون جدوى.

يقول الشاب الثلاثيني لـ “صدى الشام”: “في كل يوم تعلن محافظة دمشق عبر وسائل الإعلام المحلية عن وجود صهريج مجاني في منطقتي وبعد وصولي إلى الصهريج أجد أنه فرغ بعد أن يكون قد عبّأ العبوات لحوالي 20 عائلة فقط.

وبيّن غسان أن أحد موزعي مياه الصهاريج أخبره حرفياً بأن هذه المناهل مخصّصة لتخديم 10% فقط من احتياجات سكّان العاصمة، وأضاف الموزّع: “على الباقين تدبّر أنفسهم”.

من جهة أخرى فإن تواتر الضخ اليومي للمياه الذي يُعلن عنه النظام من المخصّصات المخزّنة من الاحتياطي المائي تتم بشكلٍ غير عادل بين الأحياء، حيث تأتي المياه بشكلٍ أسبوعي إلى أحياء العاصمة الغربية كالمالكي والمهاجرين وأبو رمانة ومحيط هذه المنطقة، في حين أن بقية أحياء العاصمة لم تعرف المياه “الرئيسية” منذ بدء أزمتها.

هذا الأمر أزعج الكثير من السكّان، ولا سيما أن نشرة الضخ اليومي التي يُعلن عنها النظام يتبيّن لاحقاً أنها غير صحيحة، إذ يوضّح غسان أنه انتشرت منذ بدء أزمة المياه جداول توزيع لمنطقة الزاهرة التي يعيش فيها “لكنها لم تأتِ ولا مرّة”.

 

 

أمراض وأوبئة

الأطباء من جهتهم حذروا من انتشار أمراضٍ جراء قلّة المياه من جهة وشرب المياه الملوّثة، وقال أخصائي الأمراض الهضمية في مشفى ابن النفيس عكيد علي: “إن هناك ازدياد في حالات التسمّم خلال الفترة الأخيرة”.

وأوضح خلال حديثٍ مع إذاعة محلية أن حالات التسمم الواردة ازدادت من ثلاثة حالات سابقاً إلى 15 حالة حالياً في اليوم الواحد، مرجعاً السبب إلى “شرب المواطنين مياهاً ملوثة وعدم التأكّد من مصدرها”.

لكن يبدو أن تعقيم المياه بات أمراً شبه مستحيل، ولا سيما أن الوقود المطلوب لعملية التعقيم وغلي المياه مفقود.

بدورها أعربت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” عن قلقها من احتمال زيادة الإصابة بأمراض الإسهال بين الأطفال بدمشق جراء نقص المياه وتردي نوعيتها وارتفاع أسعار مياه الموزعين.

وقال المتحدّث باسم يونيسيف كريستوف بوليراك: “إن معظم الأطفال الذين التقاهم فريق بونيسيف قالوا إنهم يمشون نصف ساعة على الأقل إلى أقرب نقطة توزيع مياه عامة للحصول على المياه، ثم ينتظرون في الطوابير لمدّة تصل إلى ساعتين وسط درجات حرارة منخفضة.

وأشار بوليارك إلى أن “يونيسف” قد ساعدت في إعادة تأهيل وتجهيز 120 بئرًا في دمشق وحولها، تغطي حوالي ثلث الاحتياجات اليومية من المياه، منذ 22 كانون الأول الماضي، لافتاً إلى أن هذه الآبار هي المصدر الوحيد للمياه لكامل مدينة دمشق.

 

هل تعود المياه إلى مجاريها بسرعة؟

يتوقّع مهندس مدني يعيش في العاصمة دمشق، أن عودة المياه ليست بالأمر السهل كما تصرحيات المسؤولين السوريين في دمشق.

وقال المهندس الذي رفض الإفصاح عن هويته لـ “صدى الشام”: “إن عودة المياه يتطلّب مراحل ومعطيات أساسية لا يُمكن توفّرها بالوقت الراهن”، مشيراً إلى أن أبرز هذه العوامل تتمثّل في توقّف المعارك في المنطقة بشكلٍ تام، والاستقرار على الجبهات والسماح لفرق الإصلاح الفنية بالدخول وتأمين كامل الحماية لها، لتتمكّن من الدخول والخروج من المنطقة بكامل حريتها.

وأضاف المهندس أن الأمر يحتاج أيضاً إلى مد خطوط كهرباء عالية التوتّر إلى منطقة النبع لتشغيل آليات الصيانة معتبراً أن ذلك ليس أمراً سهلاً فيما لو تم التوصل إلى اتفاق يسمح للفرق الفنية بالدخول.

وبيّن أنه بعد ذلك لا بد من معاينة المضخّات بشكل دقيق وهو أمر يستغرق أياماً، ومن ثم استبدال القساطل التي تعرّضت للتدمير بأخرى جديدة وصالحة، لافتاً إلى أنه من الممكن في هذه المرحلة البدء في تعقيم المياه وفصل الملوّثة عن النظيفة وإصلاح الأضرار.

وأوضح المهندس أن الأضرار التي تعرّض لها النبع “مؤلمة لكنها ليست هائلة ولا تؤدي لتدمير النبع نهائياً كما روّج البعض “، موضحاً أنه بعد عملية الإصلاح من الممكن إجراء الضخ التجريبي ثم الضخ الجزئي وتجريب نظافة المياه وفعالية الإصلاح ليتم الضخ بشكلٍ كامل حينها.



صدى الشام