بيت.. بيوت… مسقط الرأس والروح


غسان الجباعي

“إن أكبر مصيبة يمكن أن تحل بالإنسان هي أن يُهدم بيته”….

أربعة جدران وسقف هي كل ما يملكه الإنسان من ثروة مادية ومعنوية. قد يبدو هذا الاختراع الأول للبشرية سهلًا، لكنه -بالنسبة للإنسان الأول-  لم يكن أمرًا متاحًا؛ فقد بقي يعيش آلاف السنين، في الكهوف والمغاور، خوفًا من الوحوش الجائعة. وقد بقي على هذه الحال قرونًا كثيرة، لم يفكر خلالها بمغادرة القطيع، ومواجهة هذه المخاطر المحدقة به، ولم يكن يملك -أصلًا- المعرفة، ولا المواد والأدوات اللازمة لذلك. فكانت المغارة هي الرحم الثاني الذي لجأ إليه من أجل المحافظة على وجوده.

إن توق الفرد إلى التحرر من القطيع دفعه لخوض مغامرة العيش في الهواء الطلق، فوق سطح هذه الأرض، وتحدي المخاطر وعاديات الطبيعة التي يمكن أن تواجهه، إذ لم يكن قد فهم قوانينها أو سيطر عليها بعد. لكن تطوره البيولوجي وانتصاب قامته وتحرر يديه، وقدراته على اكتساب مزيد من الخبرة والمهارات والمعارف والخيال، مكنته بالتدريج من السيطرة المضطردة على قوى الطبيعة ووحوشها، وامتلك الشجاعة على الخروج من الكهف ومواجهة العالم. فعاش في العراء، حتى امتلك المهارة اللازمة لبناء البيت الذي يشعره بالأمان والحميمية والحرية، فكان ذلك أول شهقة للحرية.

ويُعدّ البيت، أو حتى المغارة، صلة الوصل بين الإنسان والأرض التي بنى عليها بيته أو مغارته. إنها اللبنة الأولى لاستعمار واستثمار الأرض التي ستصبح وطنًا، وسيلتصق الإنسان بها ويدافع عنها بما يملك من وسائل؛ فدفاعه عن ذلك البيت يعني دفاعه عن وطنه وحياته وأسرته، وخسارته بيته تعني خسارته لكل شيء.!

يُقال إن الإنسان البدائي أنشأ، في البداية، جدارًا واحدًا، ليصدّ عنه الريح والبرد من جهة واحدة، ثم بنى بعد ذلك بقية الجدُر من كل الجهات، وجعل لها -أخيرًا- سقفًا من جذوع الأشجار والأعشاب، يقيه من الثلج والمطر وأشعة الشمس. وقد ترك في أحد الجدران بابًا لدخوله وخروجه، أصبح -في ما بعد- بطول قامته، كما ترك كوة صغيرة تحولت جيلًا بعد جيل إلى نافذة واسعة للضوء والشمس. ولا أحد يدري كم مضى من القرون حتى أصبح البيت، كما نراه اليوم، مكونًا من عدة طبقات وغرف ذات خدمات مختلفة: غرفة نوم وصالون ومطبخ وحمام وحديقة، وغيره من الخدمات التي تلبي حاجات الإنسان غير المحدودة.

لكن الإنسان لم يكتفِ يومًا بتلبية حاجاته المادية فحسب؛ فمع تطوره الذهني والمعرفي بات بحاجة ماسة إلى تلبية حاجاته الوجدانية أيضًا: الروحية والأخلاقية والجمالية. ولم يعد البيت كومة من الحجارة يلجأ إليها، أو مكانًا آمنًا ومستقرًا لتربية أطفاله فحسب، أو ملكية خاصة يحميها ويدافع عنها؛ بل بات يشكل مخزنًا لذاكرته ومرجعًا لحياته ومستقبل أولاده. فالإنسان، مع أنه يعد البيت “شقاء العمر”، كما يقال، غير أنه يشكل في الواقع البيئة الحاضنة له، ولعادات المجتمع وتقاليده وقيمه ولغته الخاصة وثقافته. إنه صندوق الذكريات وملعب الطفولة، والمدرسة التربوية الأولى الأكثر تأثيرًا في حياتنا المعرفية والنفسية والاجتماعية. وهو مسقط رأسنا ومرتع نموّنا وصيرورتنا. ونحن لا نرتاح إلا فيه؛ لأنه مكان عيشنا ومخبأ أسرارنا وساتر عيوبنا ومأوانا عند الشدة والعجز. وهو المكان الأول في هذا العالم الذي تراه أعيننا، وتكتشفه حواسنا، وتدركه عقولنا. إنه مهد الطفولة والفتوة والشباب. بيت الجد والأب والأم والأخوة والأقارب والجيران. تربطنا به -طوال العمر- أواصر الذكريات المشتركة والحنين الأول والتجارب الإنسانية البكر (الحب والزواج والمرض والولادة والموت…) كما يربطنا حبل السرّة إلى جدار الرحم.

الإنسان الذي لا بيت له لا تاريخ له ولا جغرافيا ولا انتماء ولا هوية. ولذلك؛ استخدم الطغاة -عبر التاريخ- تدمير البيوت وحرقها ونهبها وتشريد سكانها أو نفيهم، كواحدة من أشد العقوبات التي يمكن استخدامها لردع الخصوم والمعارضين السياسيين.

وكما أن الأسرة في المجتمعات الحديثة تُعدّ لبنة أساسية في بناء المجتمع، فإن البيت يُعدّ شرطًا لازمًا لتشكل هذه الأسرة ووحدتها ونموها الطبيعي ونجاحها. ولذلك؛ نشأ هذا التلازم بين رابطة الدم والبيت الذي ينشأ فيه المرء مع أسرته. حتى باتت العائلات تُعرف وتلقب ببيوتها.

كما أن البيت تحول إلى رمز للمُلكية الشخصية والمكانة الاجتماعية والاقتصادية التي تتباهى بها العائلات الغنية. فنراها، وخاصة في عصر الإقطاع، تتسابق إلى بناء العقارات الكبيرة والفيلات الأنيقة والقصور الفخمة التي تقام في مراكز المدن، وتميّز طبقتها النبيلة عن بقية طبقات الشعب، وتفيض عن حاجتها على حساب الآخرين؛ بينما تكتفي العائلات الفقيرة، من الفلاحين والعمال الزراعيين، ببناء أكواخ صغيرة من الطين والقش أو الخشب أو الصفيح…، وغالبًا ما تتجمع على أطراف المدن والقرى، وتكتظ بأفرادها، وتحميهم من التشرد والضياع.

وما زال هذا التمايز موجودًا، على الرغم من أن البيوت في العصر الحديث، تحولت -بسبب النمو السكاني وحاجات المدن الكبرى- إلى شقق سكنية، تحتوي عددًا من الأبنية العالية التي تحتوي وحدات سكنية كبيرة، تقطنها أسر تنتمي جميعها إلى طبقة واحدة، هي الطبقة الفقيرة التي تعيش على كفاف يومها. مع العلم أن الحصول على شقة سكنية، يُعدّ بالنسبة إلى هذه الطبقة حلمًا صعب المنال، قد يستغرق تحقيقه عمرًا كاملًا، وربما أكثر. وتشكل هذه الطبقة الاجتماعية في سورية الغالبية العظمى من شعبها. وخاصة بعد أن حطم نظام الفساد والاستبداد الطبقة الوسطى وفاقم الفارق بين الأغنياء الفاسدين المحميين من السلطة، والفقراء المعدمين المرهقين بالضرائب والأقساط الشهرية التي يضطرون لدفعها للدولة أو للشركات الخاصة، لقاء الحصول على شقة أو أثاث منزلي.

إن تدمير أو حرق أو ضياع البيت لا يعني خسارة الفرد رزقه وقطاف عمره فحسب، بل يعني –أيضًا- تشرد أسرة بكاملها، وتمزيق وحدتها، وفقدان ذاكرتها وتاريخها وأمنها واستقرارها، وضياع ماضيها وحاضرها ومستقبل أبنائها. وعندما يجري تدمير المدن -كما يحدث في سورية منذ خمس سنوات- يصبح التدمير جريمة بحق شعب ووطن؛ قبل أن يكون جريمة ضد الإنسانية، ولا يفهم قسوة هذه الحالة ومآسيها، كما يفهمها السوري الذي انتزع من أرضه ليعيش تحت الخيام؛ بعيدًا عن مسقط رأسه وروحه…




المصدر