صحافيون بلا صحف


إبراهيم صموئيل

أدّعي أن لدينا في سوريّة من أصحاب المواهب والكفايات والطّاقات الإعلامية ما يُوازي -إنْ لم يفق أحيانًا- ما لدى أيّ بلد عربيّ ذائع الصيت، سواء في تقدّم مستوى وسائل إعلامه المختلفة، أو في مهارة الإعلاميين فيه.

بيد أن ما لا أستطيعه هو أن أدَّعي وجود هوامش -ولو مجرَّد هوامش- حرّيّة تعبير لدينا أرحب مما لدى بلدان عربيّة أخرى. فالطغيان الحاكم في بلادنا لم يترك لأيّ منّا مجالًا للتباهي ولو بهوامش حريّة، بمن في ذلك فنان الكاريكاتير المعروف، علي فرزات، الذي تقرَّب منه الطاغيةُ الحالي وصادقه -ذات يوم مضى- قبل أن يولّيه أبوه الحكم.

لقد حُوصر الناس بثلاث صحف حكوميّة، صفراء، بعضها منسوخ من بعض (تشرين والثورة والبعث)، ليست سوى نشرات حزبيّة سلطويّة، بلا نكهة ولا طعم ولا تميّز، فضلًا عن كونها بلا أدنى حريّة؛ إذ ستقطع المخابرات أصابع مَنْ يجرؤ -أو حتى يغلط- على صوغ عنوان يكون حافظ الأسد مفعولًا به على نحو “استقبل رئيسُ الوزراء الإيطالي في روما الرئيسَ حافظ…” بدل أن يكون فاعلًا متصدّرًا الكلام “التقى الرئيسُ حافظ الأسد رئيسَ الوزراء الإيطالي في روما”.

ولعل هزال هذه “الصحف” وتطابق بعضها مع بعض، واندراجها خارج قوسي الفنّ الصحافي. هو ما دفع ممدوح عدوان -ذات يوم- إلى المطالبة بإلغاء صحيفتين؛ توفيرًا على الميزانيّة العامّة، وراحة لرأس القارئ ولأعصابه؛ وما دفع غيره إلى السخرية من تلك النشرات بقوله إن المرتجعات من نسخها كلّ يوم يفوق عددَ النسخ التي تمَّ توزيعها!

ليس جديدًا ما قلته آنفًا. بيد أن ما قد لا يعرفه الكثيرون، هو اللائحة التي أُرسلت من إحدى الصحف العربيّة (وأتحفّظ عن ذكر اسمها لأنّ الواقعة هي الغاية بصرف النظر عن هذه الصحيفة أو تلك) وفيها دعوة عامّة للصحفيين العرب للكتابة في أبوابها وأقسامها المتعددة.

اللافت، أن الصحيفة لم تتوقّف عند حدود تصنيف الموضوعات “تحقيق مصوَّر، دراسة، مقال مطوّل، زاوية، أخبار… إلخ” محددة عدد كلمات كل مادة، وعدد الصور المطلوبة؛ بل أضافت قيمة المكافأة المالية، مرتبةً من الأعلى إلى الأدنى بحسب جنسيّة الصحافي المشارك، بحيث كانت المكافأة للصحافي السوري هي الأدنى، أو ما قبل الأدنى بجنسيّة أو اثنتين!

في يقيني، ما من عتب على إدارة الصحيفة، ولا من لومٍ. الخزي والعار، والصَّغار كلّها، على الطغيان الحاكم في البلد. إذ حتى زعماء العصابة يحرصون الحرص كلّه على حماية أفراد عصابتهم، والدفاع عنهم، وحفظ كراماتهم، وتأمين كفايتهم؛ إنْ لم يكن لسواد عيون أفراد العصابة، فلكرامة وسمعة ومكانة زعماء العصابة أنفسهم، ولموقع العصابة بين العصابات الأخرى؛ أما الطغيان الحاكم فلا يأبه، إنْ لم يغتبط الغبطة كلّها لوقائع مُهينة لمبدعي البلد من صحافيين وغير صحافيين.

لقد هاجرت عقول إبداعيّة فكرية وأدبية وصحافية سوريّة كثيرة إلى البلدان العربية والأجنبية، سواء كانت هجرة شخصيّة أو كتابيّة، بسبب الاستبداد والتعتيم ومصادرة حرية التعبير والمحاصرة والإفقار المتعمَّد الذي انتهجه الطغيان، بحيث بات من المعروف أن أقلّ مكافأة مالية يتمّ نيلها مكافأة السوري من صحافة سلطة بلده، وهو الأمر الذي حدا بتلك الصحيفة إلى التجرّؤ على ما تجرَّأت عليه؛ ومرة أخيرة لا لوم عليها ولا عتب.




المصدر