في سيسيولوجيا الإخفاق


عمار ديوب

أصدر الكاتب السوري معاذ حسن، كتاب سيسيولوجيا الإخفاق، ويتألف من خمسة أقسام، صادر عن دار أرواد لعام 2015، تطرّق فيه إلى إشكالية عصر النهضة الأساسية، أي: لماذا تقدم الغرب وتخلف الشرق، وتحديدًا الإسلامي منه؟ ويراها إشكالية ما زالت راهنة. الكاتب يضع يده على مسألتي التأخر التاريخي للعرب والمسلمين، مشروع الحداثة الأوربي جوابًا عن السؤال، وليُظهر تباينًا كليًّا بين التاريخين، ومن ثَمّ؛ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، ولقاؤهما متعلقٌ، كما يشير، إلى الانطلاق مما وصلت إليه المجتمعات الأوروبية، أي تجاوز مسألتي النقل والعقل، اللتين سادتا طيلة العصر العربي الإسلامي الوسيط، وظل العرب يأخذون فيها إلى أن صُدموا بالحضارة الأوربية مع نابليون ولاحقًا مع البعثات التعليمية. الكاتب هنا، وبعد أن رأى لا جدوى من استخراج العقل من النص، يؤكد أنّ لا إمكانية مع سيادة العقل والنقل لأيّ حداثة ممكنة، فالإشكالية هذه دائمًا تقف عقبة أمام التطور، والنتيجة نهضة فاشلة والنكوص إلى ما قبلها أمرٌ ممكنٌ.

يقع الكاتب في إشكالٍ منهجيٍّ يَمنعه من قراءة الواقع بشكله الموضوعي كما نزعم؛ فهو يُساكن بين التأخر وبين الغرب القادم إلينا، وكأنّ ليس من تأثير مهيمن للاستعمار في العرب، ولهذا لا يتطرق إلى مفهوم الإمبريالية واستعمار بلدان الأطراف، ومنع النهوض الصناعي فيها، وتدميره أي إمكانية ثورية للنهوض، كما جرى لمشروع محمد علي مثلًا، وتخصيص بلاد كثيرة بأنواع معينة من الزراعات. نرى أنّ الاستعمار لعب دورًا مركزيًا في إبقاء العلاقات الاجتماعية والاقتصادية كما كانت، وذلك من خلال منع تطور الثورة الصناعية، والتي هي الوحيدة التي تسمح جذريًٍّا بنقلة في الوعي، أي من خلال التمازج العمالي، وطرح مطالب مشتركة، ومن ثمّ؛ يتراجع مفهوم الدين أو القبيلة أو العائلة بوصفها علاقات فاعلة في العقل والممارسة. هنا جذر تفشيل التطور، فالإمبريالية خلقت مجتمعًا تابعًا في كل مستوياته، ويطلق على هذه الحالة “الكولونيالية”.

يذهب الكاتب إلى الماضي ليفسر لنا الحاضر، أي لماذا نحن نمانع التقدم، ونستكين للتأخر والتخلف، ويجد أن سبب تخلفنا يكمن في الترابط الوثيق بين القبيلة والإسلام، فلم يستطع الإسلام على الرغم من أنّه ثورة على القبليّة وآلهتها، وهدف للنهوض بالعرب؛ ليشكلوا إمبراطورية، كبقية الإمبراطوريات، وهو ما حصل مع الأمويين والعباسيين. القبيلة هي من أقام هذه الإمبراطوريات، أي بقي الوعي مشدودًا إلى القبلية، وتشكل الفقه والمذاهب الدينية وفقها، وتعدد وفق القبليّة. وقد ساعد في ذلك أن مستوى التطور الفلسفي والعلمي كان محدودًا وفق المنطق الأرسطي، أي صوريًّا. هذه الأوضاع سمحت للعقلية القبلية برفض كل شكل للوعي يرتقي به، أي بقيت المجموعات الثقافية والفلسفية محدودة التأثير في الوعي، ومن ثمّ؛ بقي الوعي دينيًا وقبليًا. علوم الكلام والتصوف والفلسفة لم تستطع إحداث اختراق في هذا الوعي، وهو ما أبّد وجذٍّر سيطرة الفقه نهائيًا مع القرن الحادي عشر، حينما حُرقت كتب ابن رشد، وكذلك في المرحلة العثمانية.

بهذا العقل دخل العرب العصر الحديث، وبسببه لم يستطيعوا هضم الحداثة، وظلوا مشدودين إلى النص تارة وإلى الحداثة تارة أخرى. المأساة، أن الماضي لا يعود والحاضر يتجاوزنا بثوراتٍ علمية وفلسفية ما تزال تتالى، وبهذا يقول الباحث إنّنا متأخرون عن بداية عصر النهضة الأوربية، وليس عن القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه.

هناك مشكلة أخرى لدى الباحث، فهو يتعامل مع العولمة، وكأنّها ثورة لصالح كل البشرية، ومع التقنية وكأنّها محايدة بدورها، وعليه؛ يصبح تخلفنا مما صنعت أيدينا، ولا يجد مشكلة تسببها لنا. هذه مشكلة حقيقية في فهم الواقع ومتغيراته؛ فالعولمة تتضمن ثورات علمية في مجالات متعددة، ولكنها تخدم الشركات الأكبر في العالم، وتستهدف إحكام السيطرة عليه، وبما يمنع أي انفكاك للعالم عن تلك الشركات؛ بذلك تصبح العولمة، بوصفها ثورات علمية، هدفها إعادة إنتاج النظام الرأسمالي عالميًا. التقنية بذلك ليست محايدة بل تخدم هذا الإنتاج بالتحديد، ونهب ثروات العالم باسم تحديثه، فلنلاحظ الثروات المهدورة على السيارات والهواتف والحواسيب المحمولة، وعبر التجارة الحرة وهكذا. وقد أشار العالم الاقتصادي الأميركي، هاري ماجدوف، إلى أن التقنية ليست محايدة، ويجب أن تستخدم كل دولة التقنية التي تلائم تطورها؛ الفكرة بتصرف.

يُثيرُ الكاتب مسألة استهلاكية الشباب وعدميته، وأن ذلك يدفعه آليًّا ليتقبل الماضي كما هو، ومن دون نقد، والمشكلة أنّه ليس ماضيًا واحدًا بل عدّة مواضٍ، أي وفقًا لكل طائفة، وبذلك يجد أن هذا الجيل أصوليٌّ على الرغم من انغماسه في التقنية، ومتخلف عن جيل الخمسينيات الذي كانت الثورة تعتمل في عروقه، وفي الوقت نفسه، يرون أنفسهم امتدادًا لماضٍ عظيم، ولكنه لن يعود.

لا يمكن فهم شكل حضور الشباب، وكلامه فيه تشخيصٌ أوليٌّ لحالته، دون فهم العصر الذي يعيش فيه، فليس الشباب من اختار هذه الحياة، بل العصر هو من خلق لهم حياةً بائسة بامتياز؛ وحين يعدّد أشكال الإخفاق، وهي شاملة وعامة لكل مستويات الحياة، والحمد لله، فإنّه يتجاهل أنّ الشباب هذا هو ابن الشرط المخفق هذا كله.

يجد الكاتب أن هناك مسائل متعددة يجب الأخذ بها؛ لتهيئة الأرض للنهوض، كمسألة الديمقراطية بالمعنى السياسي، وهناك التربية والتعليم العقلاني، واستناد الدستور إلى المواطنة، وإبعاد الدين كلية عن التحكّم بالعقول. ويضيف، وبعكس كثير من الكتاب الذين يتكئون على ابن رشد أو المتصوفة أو الملاحدة العرب، فيجد أن تلك النتاجات تلائم عصرها، ويفضل الاعتراف بفضلها على الحضارة الأوروبية، وباعتمادنا على الحداثة الأوروبية؛ فنحن بذلك نكون مخلصين للعصر وللماضي أيضًا.

يدافع الكاتب عن مسألة العروبة ويفصلها عن القومية، ويجد أنّها الرابطة البديلة عن الهويات الدينية والقبلية. فالعروبة تُنقذنا من الهويات القاتلة، وتدفع العرب ليؤسسوا المواطنة وفقها؛ العروبة رابطة سابقة للمشروعات القومية، وهي فكرة قوميّة انتهجتها كل الأمم في سياق تشكيلها الدولة الحديثة.

يرى الباحث أن العرب لا بد من أن يكتشفوا أميركا؛ فأميركا تالية في تطورها لأوروبا ومتفوقة عليها، ويفترض التخلص من كل الأيديولوجيا المُكفرة لها، سواء دينية أو قومية أو ماركسية وسواها. وإذ نؤكد ضرورة ذلك، وضرورة التعرّف الدقيق إلى تجارب اليابان والصين، كذلك؛ فإن العرب سيكون لهم خط تطورهم الخاص، والمتميّز، وهذا يعود إلى تميّز كافة شروط حياتهم؛ أي أن الخروج من الإخفاق يجب أن ينطلق مما وصلت إليه الحداثة الرأسمالية وجميع التجارب التي حاولت أن تتجاوزها، أقصد الاشتراكية، وإغلاق ملف التقليد والنقل والتلفيق بصورة كاملة.




المصدر