الأساس الدستوري للعدالة الانتقالية


حبيب عيسى

(1)

لعل الخطوة الأكثر أهمية مع بداية المرحلة الانتقالية تتمثل في التأسيس الدستوري لمؤسسات السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، عن طريق  إصدار إعلان دستوري موقّت ينبني على أساسه انتخاب مجلس تأسيسي؛ لإنجاز بند واحد وحيد، هو وضع دستور عصري للبلاد، بحيث يكون البرنامج الانتخابي للمرشحين هو رؤية المرشح للدستور حصرًا، وبحيث يعرف الشعب أن الذين سينتخبهم ستكون مهمتهم الحصرية إصدار دستور يعبّر حقيقة عن إرادة المواطنين، ومن ثم؛ على الناخب أن ينتخب المؤهلين لهذه المهمة المصيرية، وأن تجري توعية الناخبين للتفريق بين مهمات المجلس التأسيسي، وبين مهمات المجلس النيابي (أو تحت أي مسمى آخر) وبين مهمات كل منهما، وبما أن البناء الدستوري لا يبدأ من فراغ ، وإنما لا بد من الارتقاء عما هو كائن، والانطلاق من أحدث الدساتير العالمية ، ومن أفضل الدساتير التي مرت على الجمهورية، ونحن هنا نرشح دستور 1950 للانطلاق منه، وهذا لا يعني على الإطلاق التسويق لذلك الدستور، فهو من وجهة نظرنا لا يصلح كما هو، ولكن يُبنى عليه، فقد مرت مياه كثيرة في النهر منذ عام 1950، وهناك تطور دستوري وقانوني إنساني يجب الاستناد إليه، لهذا؛ فإن الحديث عن هيكلة المؤسسات القضائية يكون تاليًا للبناء الدستوري، لأن الدستور حجر الأساس في البنيان القضائي حتى يكون دستوريًا، وفي هذا المجال لا بد من تجانس روح الدستور وتغلغلها في كل مادة من مواده، بحيث يكون خاليًا من التناقض، فلا يكفي الحديث عن الحقوق والحريات وسيادة القانون واستقلال القضاء، ثم في موضع آخر من الدستور ذاته، يُخرق ذلك كله بمواد تُطيح به كله.

(2)

وعلى سبيل المثال جاء في دستور 2012، في ما يتعلق بالحقوق والحريات العامة الأساسية، وسيادة القانون نصوص مهمة، لكن يجري خرقها دون رحمة، فقد نصّ ذلك الدستور على ما يلي: (- الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم. – المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون. – المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. – تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين. – لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وينظم القانون ذلك. – على كل مواطن واجب احترام الدستور والقوانين. – للحياة الخاصة حرمة يحميها القانون. – المساكن مصونة لا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا بأمر من الجهة القضائية المختصة وفي الأحوال المبينة في القانون. – سرية المراسلات البريدية والاتصالات السلكية واللاسلكية وغيرها مكفولة وفق القانون. – لا يجوز إبعاد المواطن عن الوطن، أو منعه من العودة إليه. – لا يجوز تسليم المواطن الى أي جهة أجنبية. – لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة أو مغادرتها، إلا إذا منع من ذلك بقرار من القضاء المختص أو من النيابة العامة أو تنفيذًا لقوانين الصحة والسلامة العامة. لا يسلم اللاجئون السياسيون بسبب مبادئهم السياسية أو دفاعهم عن الحرية. العمل حق لكل مواطن وواجب عليه، وتعمل الدولة على توفيره لجميع المواطنين، ويتولى القانون تنظيم العمل وشروطه وحقوق العمال. – حرية الاعتقاد مصونة وفقًا للقانون.  – لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة أو بوسائل التعبير كافة. – تكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام واستقلاليتها وفقًا للقانون. – للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميًا والإضراب عن العمل في إطار مبادئ الدستور وينظم القانون ممارسة هذه الحقوق. – حرية تكوين الجمعيات والنقابات، على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية، مكفولة وفقًا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون. – سيادة القانون أساس الحكم في الدولة. – العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون. – كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في محاكمة عادلة. – حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والمراجعة والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون، وتكفل الدولة المساعدة القضائية لغير القادرين وفقًا للقانون. – يُحظّر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. – لا يجوز تحرّي أحد أو توقيفه إلا بموجب أمر أو قرار صادر عن الجهة القضائية المختصة، أو إذا قبض عليه في حالة الجرم المشهود، أو بقصد إحضاره إلى السلطات القضائية بتهمة ارتكاب جناية أو جنحة. – لا يجوز تعذيب أحد أو معاملته معاملة مهينة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك. – كل شخص يُقبض عليه يجب أن يُبلغّ أسباب توقيفه وحقوقه، ولا يجوز الاستمرار في توقيفه أمام السلطة الإدارية إلا بأمر من السلطة القضائية المختصة. – لكل شخص حُكم عليه حكمًا مبرمًا ونفذت فيه العقوبة وثبت خطأ الحكم أن يطالب الدولة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به. – كل اعتداء على الحرية الشخصية أو على حرمة الحياة الخاصة أو على غيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور يُعد جريمة يعاقب عليها القانون.) (دستور 2012). فهل وجدت تلك النصوص طريقها للتطبيق؟ أم تم إهدارها؟ وكيف؟ وأين الخلل الذي سمح بذلك؟

(3)

لقد أردت من الإشارة إلى تلك “النصوص الدستورية” التنبيه إلى أهمية البناء الدستوري الموحد المتكامل؛ حتى لا تأتي النصوص بدون أي أثر في الواقع، تكفي الموازنة بين هذه النصوص، وما جرى، وخاصة ما يجري في الواقع الموضوعي الراهن، لنعرف حجم التناقض الصارخ بين النصوص والممارسة، لهذا قلنا: إن روح الدستور يجب أن تستند إلى حامل مؤسساتي من جينات الدستور ذاتها؛ حتى لا يأتي التطبيق مناقضًا لروح الدستور، ولهذا قلنا أيضًا: إن بناء هيكلة مؤسسات القضاء يجب أن يكون دستوريًا؛ حتى يكون محصنًا من الانحراف.

(4)

وإذا كان الدستور أبا القوانين، فإن المؤسسة التشريعية التي من المفترض أن تكون تمثيلية للإرادة الشعبية هي المنوط بها ضبط المسار، وتحديد البوصلة، وإقرار القوانين والأنظمة في السياق الدستوري، والتعبير عن الإرادة الشعبية المتجددة، ومنح الثقة وسحبها من مؤسسات السلطة التنفيذية، ومن ثمّ؛ فإن الدستور يجب أن يكفل استقلال السلطة القضائية ويحدد سلطاتها من جهة، كما أن طريقة الانتخاب وبناء الهيئات المستقلة المشرفة على الانتخابات والتكامل مع المؤسسات القضائية من جهة أخرى هو الذي يحدد مقدرتها على القيام بدورها في البناء الوطني، بوصفه ركنًا أساسًا في هذا البناء، فالمرحلة الانتقالية التي يؤسس لها بإعلان دستوري لا بد أن يترافق ذلك مع تأسيس تشريعي أيضًا.

(5)

وبالترافق مع التأسيس الدستوري والأساس التشريعي ينهض التأسيس القانوني بإلغاء القوانين الاستثنائية والقضاء الاستثنائي، وضرورة تعديل وتحديث القوانين والتشريعات التي مضى عليها مدة طويلة من الزمن، بما يتلاءم مع التطورات الحاصلة في الواقع الاجتماعي والقانوني، مثل:( قانون العقوبات، القانون المدني، قانون أصول المحاكمات المدنية والجزائية، قانون الأحول الشخصية، قانون البينات). ثم وضع قوانين صارمة لاحترام تنفيذ الأحكام القضائية المكتسبة الدرجة القطعية، وعدم تعطيل تنفيذها بأي ذريعة كانت، سياسية أو غير سياسية.

وبما أن القضاء يحكم بين الناس استنادًا إلى القوانين النافذة، ومن ثم؛ فإن منظومة القوانين ومدى تطورها وشموليتها لقضايا المجتمع كافة، فإنها هي التي تمنح القضاء إمكانية تحقيق مهماته، ولهذا فالقوانين، إضافة إلى التحقق من دستوريتها، لا بد من تطويرها باستمرار لتساير تطور المجتمع، ومنظومة القوانين في سورية تحتاج إلى تحديث جذري، فهناك قوانين عثمانية مازالت نافذة، وقوانين أخرى منذ عهد الاستعمار الفرنسي، والقوانين المدنية والجزائية يعود تاريخ إصدارها إلى أواخر أربعينيات القرن الماضي، وكذلك قوانين الأحوال الشخصية، وقوانين أصول المحاكمات، وقد فتح ذلك أبوابًا للاجتهاد القضائي كي يسد الفراغ، وكذلك جرى إصدار كثير من القوانين الاستثنائية بحجة قصور النصوص القانونية، وقد تسبب بذلك إهمال مؤسسات التشريع والتطوير القانوني، لذلك فمن الأولويات، مع بداية المرحلة الانتقالية، تضافر جهد المؤسسات الحقوقية في الجامعات والمؤسسات القضائية ونقابة المحامين وفروعها، ومؤسسات السلطة التشريعية لوضع خطة ممنهجة تُدرس خلالها القوانين، وتصاغ منظومة قوانين عصرية لتحقيق وحدة القوانين، والمساواة أمام القانون ، ليتكامل ذلك مع وحدة القضاء، وكما قلنا، ونكرر : إن البداية تنطلق من الدستور، الدستور العصري، ثم تصاغ القوانين في سياق دستوري محدد تغييرًا، أو تعديلًا، أو تطويرًا، أو إلغاء.

إذن؛ تبدأ المرحلة الانتقالية بالتأسيس لدستور يؤسس بدوره لنظام قضائي دستوري، عبر قانون متناسق دستوري للسلطة القضائية، وقانون للمحكمة الدستورية ينسجم مع الدستور الذي يحقق الفصل بين السلطات، وكذلك قانون لمجلس الدولة يحقق تبعيته لمجلس القضاء الأعلى، وقانون دستوري للطوارئ، وقانون للقضاء العسكري، والمحاكم التابعة له، وقانون أصول المحاكمات المدنية، والجزائية، والعسكرية، وإلغاء جميع القوانين والمراسيم الاستثنائية، والنص دستوريًا على تحريم سنها مستقبلًا.

بناء على ذلك، وبالترافق معه، وبالتأسيس عليه، تبدأ عملية هيكلة القضاء، وتحديد مهمات الضابطة العدلية، وتبعيتها وحدود سلطاتها. (وللحديث صلة).




المصدر