بــــــــائــــــــــــع الفـــــــحـــــــــم


حاتم محمودي

“بلاغ عاجل عن حالة الطقس هذه الليلة:

عاصفة ثلجيّة قد تضرب مخيّما للاجئين”.

أنا بائع الفحم يا نيرون، أرجوك هبني شفاعتك وشرعية قطع الأشجار، نريد قليلًا من الجمر، فهذه الليلة، قد يموت مئة طفل في ذلك المخيّم الذي قصفته طائراتك.

أنا بائع الفحم يا نيرون، تعرفني جيّدًا منذ ألف عام مضى، منذ أوّل الرصاص في غابات الجبال ودويّ البنادق في أكفّ الإرهابيين، الإرهابيون الذين أرسلتهم حكومتك كي تقتل الأحبّة.

أنا بائع الفحم، حطّاب الغابات السرّي، يحبّني نادل المقهى لأنّي الوحيد الذي يهبه الجمر، كي يدخّن زبونه النرجيلة، زبونه الذي قُتل ليلة الأمس برصاصة طائشة، ويحبّني معظم الفقراء، يصطفّون أمام مغارتي كي يشتروا قطع الفحم، مقابل خواتم زوجاتهم بعد أن قُصفت البنوك، وخرّبت الديار، وخيّم دخان أسود على المدينة، علّهم يطردون زمهرير البرد من خواء تلك الجدران المتداعية والمتجمّدة.

أنا بائع الفحم، أظافري حالكة كالليل، قميصي رايات الجنائز في المقابر الجماعية، وجهي بتروليّ اللّون، وحذائي سرقته من قدم جنديّ مقتول في الجبل، هناك حين كنت أحتطب، والقنابل أكثر غزارة من هذه الأمطار التي تفتكّ بالمخيّم.

كلّ الغابات قطعت أشجارها، ساعدني الإرهابيون في ذلك، لأنّي كنت أموّلهم بأخبار رجال الأمن، وأجلب بعض الدواء لجرحاهم، وأحدّثهم عن قصص الحداثيين الخائفين منهم، وأجلب لهم الجرائد المذعورة من رصاصهم، وأسرد عليهم قصص المدافعين عن الدولة الحديثة.. حتّى النساء جلبتهن لهم.

ولست خجولًا يا نيرون، فأنا جراد الحرب، أحمل فأسي وأهدم أعشاش الطير، وأدهس العشب، وعن الحطب أغنّي، وكثيرًا ما أمشي منتفخًا كالطّاووس، أكره الشعراء كثيرًا، وأعكّر صفو الرومانسيين كلّما أوقدت الحرائق في ذلك الخشب، كي يتصاعد الدخان كثيفًا، ويصير الحطب فحمًا.

أنا نصير الفقراء، الذين سكنوا الأكواخ، فكان الثلج رداء أجسادهم النحيلة، أبيع لهم جثّث الأشجار، كي ينحروا الصّقيع، ويحدّثوا صغارهم عنك، وعن القتلة الملتحين، وعن عودة الغزوات القديمة، لقد رأيتك يا نيرون توزّع طيور الكاتيوشا على الإرهابيين، وتأمرهم بقتل جنودك، ورأيتك تمشي خلف جنائزهم وتتّهم جراثيم الله بارتكاب الجريمة، أجل فقد كنت حينئذ أحمل حزمة الحطب على ظهري، أهرول مثل ذئب في أحراش الجبل، ولمّا رأيتك انتابني الضحك، ثمّ جلست على صخرة ملساء وبكيت، ولم أنتبه إلى أنّها مجرّد قبر، إلا بعد ذهابك، لم تعد تكفي مدننا قبور سكّانها يا نيرون، ها نحن نطمر الأحبّة في الجبال، وفي باطن الكهوف التي لجأ إليها الهاربون خوفًا من الجحيم.

أنا حطّاب الغابات السرّي، صرت وحدي سيّد الجبل، أصفّر مع الرّيح في القمم، أجوَع من ذئب أنا، وليس لي غير هذه الفأس، كلّ الإرهابيين عادوا إلى منازلهم، صافحوا الشيطان في جفنة مليئة بدم العجائز والأطفال، وصرت وحيدًا، لا أحد يساعدني في قطع الأشجار، يدي اليمنى باتت عاجزة على حمل الفأس، رئتي تنفّسها الثلج، عظامي صارت مثل مزمار يتلو أهازيج الأرواح، أرواح الموتى في الأودية.

أنا حطّاب الغابات الهمجيّ، لم تكتب عنّي الجرائد، ولم تذكرني سيرة الثورة في كتب المؤرخّين، أبنائي لا أعرف في أيّ ضاحية قتلوا، ولم يعد في جرابي غير قطع قليلة من الفحم، مثل مجنون أخطّ بها أسماء الموتى على قبورهم، وحين تشطب دموع السّحاب ما أكتبه، أستخدم أظافري، أخمش بها الصخر إلى أن يختلط بياض الحجارة بدمي، فأفشل مرّة أخرى، وألعن الربّ وكلّ الدّول الحديثة.

أنا حطّاب الغابات الدمويّ، كلّما جرف السّيل صخرة ما، أو جعلني أكتشف مقبرة جديدة مثل عالم الآثار، أقف رابط الجأش، أجمع العظام، أرتّبها أمامي كما لو إنّي إلها جديدًا يعيد للحياة نبضها، أبحث عن رأس ضحيّتها، عن معصم يدها المفقود، أحشو فراغها برطل من الطّين وربّما أكثر، ثمّ أقول لها: “كوني!!” فتكون غير ما أردته لها، محض خردة آدميّة، وينتابني الجنون، فأندب مثل امرأة ثكلى، أنوح بالقرب منها وأصرخ: “هذا دمي، فليشرب طينك منه، إنّ الدّم سرّ الانبعاث”. وفي نهاية الأمر، أركلها من شدّة حبّي لها، وحنيني إلى حياتها، ثمّ أندم، وبعد ذلك كلّه أنثر فوقها شقائق النعمان وأمضي.

أنا حطّاب الغابات المنسيّ، عائد إلى البلاد، أبحث عن دمي في دم الآخرين، في الجيف المشوّهة في العراء، في عفنها ودودها. وها أنّي أقف أمامك يا نيرون، يفري عظامي البرد، يطحنني الجوع، ومع ذلك لا أريد غير القليل من الجمر، طائراتك غزت كلّ الغابات من جديد، ولم يعد ثمّة شجر ولا حطب ولا حتّى قبور، وأنابيب الغاز جميعها فجّرت بمباركة بيارق اللـه، أمّا هناك، على بعد ميلين وأكثر من تلك الضاحية، يموت الأطفال في هذا الليل من شدّة الصقيع، لا، لن أبرح مكاني قبل أن أكتب أسماء معظمهم على جدران قصرك.

أنا حطّاب الغابات البشريّة، عائد إلى البلاد، صرت جينة من جينات الإرهاب الحبلى في مقاصل الذبح التي فرضها الجوع، وصرت مهووسًا بغير قليل من الرعب وذاكرة رقش الدماء وقطع الرؤوس، عروقي أودية من رماد وعظامي جبال من القبور، أمعائي مزّقت مثل الحبال، وهذه كوابيس الليل مثل طيور سوداء تثقب رأسي بمناقيرها، تمتصّ رغوة جمجمتي، تزدرد عينيّ وتجرّني فوق الوحول والأشواك.

أنا هذا العائد يا نيرون، يلزمني ردم الموتى كلهم، وإنّي لقاتلك.

لن تكون السلطة!!!

لن تكون!!




المصدر