روسيا والأسد وإيران... فصول من المواجهة و«الممانعة»


أصبح التحالف بين روسيا والنظامين السوري والإيراني مواجهةً مفتوحةً لن تلبث أن تظهر معالمها أكثر فأكثر. وتمرّ الأزمة السورية حاليًّا بأخطر مرحلة، وبصراع متصاعد بين «الحلفاء» على مَن تكون له الكلمة الأخيرة ليس فقط في تقرير مسار الأزمة وإنما في تقرير مستقبل سوريا. وفيما يبدي نظام بشار الأسد وحليفه الإيراني «ممانعة» جلية في تمرير خطط روسيا، ليس واضحًا ما إذا كانت الأخيرة بلغت درجة من التمكّن (عبر إعادة تأهيل الجيش السوري وتنظيمه) لفرض إرادتها. وقد أدّى انشغالها باحتمالات وهمية لمواجهة مع الولايات المتحدة أو حتى مع تركيا، ثم بمعركة حلب لحسم الوضع شمالًا، إلى تغافلها عمّا يحصل في دمشق ومحيطها، بل عمّا يحصل في حمص وحماة ودرعا؛ لذلك، بدا الأمر كأن الروس نفّذوا، متقصّدين أو غير متقصّدين، ما رسمه المخطط الأسدي - الإيراني، ولم يعملوا إلا في النطاق الذي حُدّد لهم. وعلى رغم أن فاعليتهم توسّعت على مستويات عدّة عسكرية وسياسية، إلا أنهم لم يتحكّموا بالحيّز الذي يحتلّه التنسيق بين النظام وإيران.

يقتضي الاستدلال إلى المواجهة بين «الحلفاء» معاينة جملة تطوّرات كان أبرزها التصعيد في وادي بردى، لكن ثمة وقائع حدثت وبقيت أشبه بألغاز تحتاج إلى من يفكّ رموزها، وإنْ لم تكن غامضة دائمًا. لعل أبرزها الصمت الروسي المطبق إزاء عودة تنظيم «داعش» إلى تدمر، بالسيناريو السابق نفسه، وبأعداد أكبر من تلك التي «اجتاحت» المدينة منتصف أيار (مايو) 2015. ففي منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، «استعاد» التنظيم المدينة في وضح النهار ناقلًا نحو خمسين دبابة على مسافة 250 كيلومترًا مكشوفة من دون أن يتعرّض لأي إزعاج أو إعاقة، وكما في المرة السابقة هربت/ انسحبت قوات النظام المعزّزة بحضور إيراني وبوجود روسي رمزي (استخباري). وما أعاد «داعش» إلى تدمر هو حاجة «ممانعة» دمشق وطهران إلى خدماته؛ إذ كان احتلاله مدينة أثرية ذات سمعة عالمية شكّل تطوّرًا حاسمًا في حصر الأزمة السورية في خانة «الحرب على الإرهاب». ولأن التوجّه الروسي إلى وقف النار وترتيب مفاوضات في أستانة يعيد الأزمة إلى واقعها الداخلي كصراع بين نظام ومعارضة، فقد استدعى الأسد والإيرانيون «داعش» مجدّدًا إلى تدمر، إلا أن تكرار السيناريو المكشوف قد لا يؤدّي إلى النتائج ذاتها.

تنبغي أيضًا معاينة وقائع أخرى، فما الذي استدعى أن يدمّر «داعش» معمل «حيان» للغاز في ريف حمص الشرقي الذي وصفه وزير الخارجية الكرواتي بأنه «تدمير لأكبر منشأة اقتصادية في سوريا منذ اندلاع الأزمة» (كرواتيا تملك 45% من المعمل). هل نفّذ «داعش» أوامر النظام، أم اعتبر النظام أن لا عودة له إلى تلك المنطقة فقرر تدمير المنشأة ليحرم أعداءه من مرفق اقتصادي مهم؟ الأكيد، أنه تخريب متعمّد من دون أي مبرّر أمني، لكن هناك مصادر تعزوه إلى هاجس «ترسيم الحدود»، فالأسد يوهم المتعاطفين معه عربيًّا ودوليًّا بأنه يحارب لإبقاء سوريا موحّدة، وهؤلاء المتعاطفون يصدّقونه ويتجاهلون أجندة إيران القائمة على تثبيت نفوذ دائم في سوريا عبر التغيير الديموغرافي في محيط دمشق وحيثما أمكنها ذلك.

ثمة أسئلة أيضًا، ودائمًا في إطار تلك المواجهة، عن التفجيرات الأخيرة سواء في كفر سوسة أو في جبلة وطرطوس، امتدادًا إلى المعلن/ وغير المعلن عنه من غارات إسرائيلية. لا إجابات واضحة، لكن الحدس التحليلي لدى السوريين، موالين ومعارضين، كما لدى أي شعب يشهد حربًا داخلية، يميل إلى ربط الأحداث وتفسيرها أحيانًا بما يقرب من «نظرية المؤامرة»، ولا يعني ذلك أنه مخطئ كليًّا. فالتفجير في جبلة هو الثاني الذي يقع خلال فترة قصيرة في موقع لا يبعد سوى كيلومترات قليلة من قاعدة حميميم الروسية، وبديهي أنه يوجّه مع تفجيرين آخرين في طرطوس رسالة إلى الروس بأن أمنهم في قواعدهم يمكن أن يُهدّد من دون أن تكون طائراتهم ولا بوارجهم قادرة على الردّ. وهكذا، فإن الإرهاب الذي منع أي تدخّل دولي أو عربي مباشر في سوريا يمكن أن يُستخدم حتى ضد الروس إذا اقتضت الظروف استهدافهم.

لكن في أي سياق يمكن إدراج تفجير كفرسوسة الذي قتل فيه ثمانية من عسكريي النظام، بينهم عقيد في المخابرات؟ قال إعلام النظام إنه «تفجير إرهابي» نفّذه انتحاري، لكن طبيعة المكان وعدد القتلى أبقيا ملابسات الحادث غامضة، ولم يتهم النظام أي جهة محدّدة ما يمكن أن يعني أنه ربما يشكّ في «جهة صديقة» وأن ما حصل هو تهديد مقابل تهديد. هذا يقود إلى تساؤل عن الغارات الإسرائيلية المتوالية على مطار المزّة، فليست كلّها ضد شحنات سلاح مخصّصة لـ«حزب الله»، وإذا لم تكن بتنسيق مدروس مع الروس فإنها تبدو متناغمة مع ما يريده الروس من دون أن يكون هؤلاء متورّطين مباشرةً. لا يعني ذلك أن الإسرائيليين مهتمّون بوقف النار أو حريصون على نجاح السعي الروسي إلى إنهاء الصراع، لكنهم وجدوا في التطوّرات الجارية ما يمنحهم فرصة لمفاقمة التباعد والخلاف بين الروس والإيرانيين. وكان لافتًا مثلًا، أن قراءات معارضين لمواقف النظام من الهدنة وشروطها في وادي بردى التقطت تأرجحًا بين تشدّد ومرونة على وقع اتصالات روسية وضربات إسرائيلية وتصلّب إيراني؛ إذ جاءت أفضل المبادرات للهدنة غداة ليلة طويلة من غارات إسرائيلية على مطار المزّة ومحيطه، وحملت اسم مدير مكتب الأمن القومي علي مملوك الذي سمّى فيها اللواء المتقاعد أحمد الغضبان مفاوضًا عن مقاتلي وادي بردى ومشرفًا على تنفيذ ما يُتفق عليه، ولما حضر الأخير بادر أحد ضباط النظام إلى قتله فيما اعتبرته المعارضة «إعدامًا ميدانيًّا»، وأُجهضت «المبادرة».

كان واضحًا خلال الأسابيع الأخيرة، أن النظام والإيرانيين اختاروا وادي بردى ثغرة لضرب الاتفاق الروسي - التركي على وقف شامل لإطلاق النار. كانت منطقة الوادي شهدت طوال الأعوام الماضية مناوشات، لكنها بقيت في شبه هدنة نسبية، وتحوّل مصدر إرواء دمشق في عين الفيجة ومنشآته عنصرًا رادعًا للطرفين، فلا «الجيش الحرّ» يهدّده لئلا يستدرج هجومًا واسعًا عليه، ولا قوات النظام - و»حزب الله» تحديدًا - تستهدفه لئلا تتسبّب بتعطيش العاصمة. غير أن هذا «الرادع» أُسقط بعد التغيير الروسي لقواعد اللعبة، غداة معركة حلب، والاتجاه إلى عملية متدرّجة يُزعم أن هدفها إنهاء الصراع؛ إذ بدأت الهجمات على وادي بردى تتكاثف وتعنف بالتزامن مع الاجتماع الثلاثي، الروسي - التركي - الإيراني، واتضاح أن موسكو تطوّر تنسيقها مع أنقرة لتغيير وجهة الأزمة وإدارتها.

اتضح أيضًا أن وادي بردى والغوطة الدمشقية بشرقها وغربها كانا ثغرة في الدور الروسي. ففيما ضغطت موسكو للحصول على «وقف شامل لإطلاق النار» وبَنَت عليه دعوتها إلى مفاوضات عسكرية في أستانة تمهّد لمفاوضات سياسية في جنيف، دخلت قوات النظام والميليشيات الإيرانية في سباق مع الوقت للسيطرة على وادي بردى لكنها صُدَّت وتكبدت خسائر كبيرة، عندئذ راح النظام يقصف منشآت المياه في عين الفيجة وتوصّل إلى تعطيلها قبل يومين من إعلان اتفاق وقف النار (29/12/2016)، ليصبح حرمان دمشق من المياه ورقةً إعلاميةً في يده وذريعة لاستمراره في القتال.

قيل دائمًا، ولا يزال صحيحًا، إن أي وقف لإطلاق النار وشروع في مفاوضات سياسية يشكّلان بالنسبة إلى الأسد بداية النهاية حتى لو طالت. وينطبق الأمر أيضًا على إيران ونفوذها؛ إذ إن الترتيبات العسكرية المتداولة لهدنة دائمة تتضمّن بالضرورة سحب ميليشياتها، كما أن أي حل سياسي ترضى به المعارضة أو يُفرض عليها سيعني في حدٍّ أدنى أن سلطة الأسد لن تعود مطلقة وأن بنية نظامه ستتعرّض لاختراق، وإلّا فإنه لن يكون حلًّا ولن ينهي الصراع. لا بدّ أن تدرك روسيا أن حليفيها كانا يبجّلان دورها حين كانت ترتكب التدمير الإجرامي، فإذا كفّت عنه فإنهما سيعمدان إلى تدمير شامل لتخريب أي معادلة جديدة.