وسائل التواصل مرآة المجتمع


صفاء مهنا

ينبري كثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم في حالة ما، إيجابية كانت أم سلبية، وربما بات هذا الفضاء أكثر إغراء ليدلي كل منا بدلوه في أي قضية، لكن بعض القضايا يكون نصيبها مزيدًا من المغالاة في تناولها والحديث عنها، وذلك لعدم وجود ضابط أو معيار يحكم التعاطي فيها.

أتاحت تلك المواقع في السنوات الماضية كثيرًا من المساحات الحرة التي كان يفتقدها المجتمع السوري لعقود، وترافق وجودها بمتناول الجميع مع سنوات الثورة التي حلت كل العقد في ألسنة السوريين، وأسقطت حواجز الخوف الذي تربع وتغلغل في نفوسهم. هي حال صحية انتظرناها طويلًا، وتألمنا في حوادث عدة لعدم وجود مثيلها للتعبير عن فكرة أو رأي، أو لتفريغ شحنة ما بداخلنا تنتظر الخروج، لكنها تبقى حبيسة الخوف أو انتظار المنبر الملائم لتلك الحالة.

نحن شعوب اعتادت تداول الفكرة الواحدة مرات ومرات، ربما مردّ هذا ما تحويه لغتنا من مفردات وتعابير، أو لثقافة توارثناها تُعنى بالوصف والتحليل، يزيد على ذلك النزعة الذاتية لدى الفرد التي تجعله يُنَصّب نفسه لنقد أي حالة، والحديث عن تفاصيلها ومكنوناتها بفلسفته الخاصة، مع قناعته أنه على صواب، وربما دونما سؤاله عن طرح رأيه فيها، وهذا يعيدنا إلى زمن الوحدة بين سورية ومصر عندما قال الرئيس شكري القوتلي لجمال عبد الناصر: “أريد أن أسلمك ثلاثة ملايين ونصف المليون سوري، نصفهم أنبياء والنصف الآخر زعماء”. لا ضير من الاعتداد بالنفس، وفتح مجالات النقاش، ما يعطي آفاقًا واسعة لحرية الرأي، لكن شريطة أن يكون كل منا رقيبًا على ذاته ومفرداته، دون أن تصيب الآخرين بمشاعرهم، وتؤدي إلى حالة فيها من الإسفاف ما يغطي على حرية التعبير، ويخدش الحس العام.

كثيرة هي الحالات التي تناولها رواد وسائل التواصل الاجتماعي، وفيها ما لا يعد ولا يحصى من الآراء والتحليلات والتعليقات، التي كانت سابقًا وما تزال في وسائل الإعلام، تحدد ضمن إطار زمني بالثواني لإبداء الرأي مهما كانت عظمة صاحبه.

فنان يتوفاه الله، معارض يعود إلى “حضن الوطن”، شخصية تظهر صورها على صفحات التواصل في مكان ما، وأخرى تثار الإشاعات حول توليها منصبًا رفيعًا، فتاة تخلع الحجاب، وأخرى لا تصافح الملك أو رئيس الحكومة في تلك الدولة الأجنبية، كل هذه الأخبار بما تحمله من عمومية للناس فيها حصة ما، وما تتصف به من الخصوصية التي منحتها الحياة للإنسان حقًا لا يمكن تناوله، يجري تداولها وتناول أصحابها على مواقع التواصل بطرق شتى، تثير في بعض الأحيان كثيرًا من الاشمئزاز والقلق على مستقبل حياة اجتماعية ستفقد كل المعايير الأخلاقية والضوابط القيمية التي ستصبح أشبه بقارب، جميع ركابه يحمل المجاديف وكل منهم يجدّف كما يحلو له.

النقد هو تفحص الشيء والنظر فيه، والبحث في إيجابياته وسلبياته وتقييمها؛ للانتقال إلى ما هو أفضل، فهو علم يبين مكامن القوة والضعف في أمر ما، لكن أن يصير اجترارًا لحالة والمضغ فيها حتى تفقد كل معانيها، يصبح الأمر إسفافًا ولغوًا لا فائدة منه، بل يحمل من السلبيات ما يلقي بآثارها ويترك مجالاً للتهكم والسخرية والبذاءة في معظم الأحيان، وهذا يؤدي بكثيرين، ممن يودون النقاش الإيجابي، إلى الاعتكاف والابتعاد عن مهاترات لا تفيد بل تفقد الحديث أي محتوى.

في المقابل، وكما لكل فعل رد فعل، نجد للنقد ردودًا تقع في مطبات النقد نفسها، بل أحيانًا في أسوأ منها، وتكون مؤسفة حين ترد عن بعض الأشخاص، وهم على درجة من الوعي والثقافة وقد سيقوا إلى فخ التلاسن.

وعلى الرغم من اتساع قواميس لغتنا العربية واحتوائها على كم هائل من المفردات، إلا ان البعض يستهوي استخدام كلمات لا تصح ولا تليق بمنابر يطل عليها جميع البشر.

أصبحت وسائل التواصل مساحة أوسع ليعبر كل شخص عن رأيه وبطريقته دون رقيب أو رادع، ويتفوه بأي نوع من الكلام لم يكن قبل سنوات ليتلفظ به حتى في الجلسات البسيطة المغلقة والتي تضم بعض الأفراد ممن لهم مكانة أو قيمة ما في المجتمع، أو ربما فقط يكون الاحترام حينها لتقدمهم في السن.

الآن، بقدر ما لهذه الوسائل من إيجابية في خلق التواصل بين الناس، والانفتاح على العالم بشكل عام، بقدر ما لها من مساوئ نتيجة سوء استخدامها، فالعيب –على الأغلب- ليس فيها ولا في أي تقنية جديدة يتم اكتشافها وتعميها، إنما بمن لا يُحسن استخدامها بوصفها وسيلة عامة، ستعكس -لا شكّ- شخصيته وتفكيره.

وكما أنارت الكهرباء حياة البشر وأحدثت تطورًا نوعيًا وكميًا في جميع المجالات، استخدمتها الأنظمة الدكتاتورية لإذلال الإنسان وتعذيبه حتى الموت في جحور ستبقى علامة فارقة في تاريخ الإنسانية، يخشى أن نتوقف دائمًا عند العتبات السلبية للتكنولوجيا والتقنيات الجديدة، خاصة عندما تكون في متناول الجميع، كما بات الحاسوب أداة للعبة ورق الشدة حتى في الدوائر الرسمية، والهاتف المحمول لتسلية طفل السنوات الخمس بلعبة لا تسليه وكفى، بل تخلق لديه نهمًا لأخرى.




المصدر