من العقل الذكوري إلى الذكورة المطلقة!


جبر الشوفي

في المجتمع البدائي، حيث لم يكن هناك وجود للدولة ولا لمؤسسات قانونية أو رسمية، مهمتها حماية الأفراد والمجتمع وتحقيق الأمن وصيانة الملكيات الخاصة وخصوصيات البيوت والأسر، كان قانون الحماية الذاتية سائدًا، وتبعًا لذلك جرى إعلاء شأن القوة البدنية والشجاعة والإقدام، وكان طبيعيًا تفضيل الأسر لولادة الذكر على ولادة الأنثى. ومعلوم أنه وفق السائد إسلاميًا -حتى الآن- أن تكرم ولادة الذكر بذبح عقيقتين مقابل عقيقة واحدة للأنثى، وما ذلك إلا لأن الذكورة مرتبطة بالقوة والحماية مقابل الأنوثة المرتبطة بالضعف والحاجة إلى الحماية والصون، وما إن توافق المجتمع -بدءًا من الأسرة- مع هذا المفهوم وسيّده، حتى انضوت الأنوثة تلقائيًا خلفه وسلمت للذكر قيادتها، بل أكثر من ذلك، تحول جنس النساء قوة أساسية لتثبيته وتكريسه عبر الأجيال، فغدا الذكر الأول في الأسرة -وبالتسلسل العمري غالبًا- خلفًا لوالده، هو صاحب القول الفصل وهو الناطق المفوّض باسم الأسرة، ومنها إلى  المجتمع، متجاوزًا بذلك دور الأم أو التشاور معها، ولكن في الغرف الخلفية المغلقة. وبفضل ذلك تمّ تكرّيس هذا العرف -اجتماعيًا- حتى غدا قانونًا شفهيًا أقوى من أي قانون مكتوب وأنفذ منه، وصار أحد مرتكزات ذكورية المجتمع الأهلي القريبة صلته بمجتمع ما قبل الدولة، بما يتميز به هذا المجتمع من وعي شفوي انفعالي، ترتفع فيه قيم الخطابة الحماسية والشعر المنبري على قيم التحليل والتركيب، في العقل الجمعي!

من هنا، من قدرتها على الحماية وإدارة العنف، أخذت الذكورة أهميتها الاستثنائية ومشروعيتها الاجتماعية، وذلك بما يؤمن حماية الذات والأسرة، ومن ثمّ؛ القبيلة، ويمكنها من فرض مهابتها وتثبيت حضورها المعنوي في زحمة التنافس البدائي وتضارب المصالح وحديتها، حتى بدا كأنّ العنف أحد دعائمها الرئيسة، فارتبطت صورته تاريخيًا وفي الآداب العالمية والأساطير والفن التشكيلي، بالشجاعة والمهابة وإدارة الحروب والفوز، وكلها مع الحكمة وسعة الحيلة والذكاء من مستلزمات قوة حضور الرجل ومفخرة ذكورته، بينما ينظر إلى مظاهر القوة الجسدية وقوة الحضور والجرأة عند المرأة اجتماعيًا، إلا في حالات خاصة، باستهجان ونفور وكأنه سلوك مرذول، ينتهك صورة المرأة النمط المتوافق على طبائعه وسلوكه وطريقة تعاطيه، لذا يلازم البنت القوية في العادة اسم (حسن صبي) وتصبح حديث العامة ومجال تندرهم، وبذا يشكل المجتمع -بما تواطأ عليه-  ثقلًا معنويًا ضاغطًا، يعمل كرادع للمرأة عن تجاوز متطلبات الأنوثة من اللين والخجل والتسليم لقيادة الرجل، مقابل بقاء الرجل مثالًا للقوة والاستكبار، وإلا فستلحق به وبصورته تسميات معاكسة، ترتبط بالعقل الذكوري أو هي إحدى استطالاته، كتلك التسميات التي لا تقل أذى عن تسمية المرأة (المسترجلة)، ومن هذا القبيل النظرة الدونية للرجل الشاذ (المثلي) والتي ما زالت مستنكرة اجتماعيًا أو مستهجنة، رغم تسويغها القانوني في معظم المجتمعات الغربية.

أما وقد انعكس تطوّر علاقات الإنتاج ووسائله، في ظل علاقات السوق والسلعة ( الوثن) في عالم الرأسمال، كقيمة سائدة على الثقافة البشرية وعلى الوعي الانفعالي وسيكولوجيا الإنسان بوجه عام، وانسحب هذا التغيير على الجنسين، وطال تغيره الأكبر والأهم المرأة، فقد ارتبط بتحررها ودخولها سوق العمل وخضوعها لآلياته، بفقدانها المتدرج والمتزايد لمظاهر أنوثتها، وراحت تزحف نحو التشبه بعالم الرجل، فنافسته في العمل حيث يسرت لها الآلة الحديثة ذلك، وقاربته في شكل لباسها الذي وفر لها يسر التعامل مع أوضاع العمل ومتطلباته، ومن ثمّ؛ خالطت الرجال في المجالس والمنابر وفي الشأن العام، باندفاع وحمية أكثر؛ حتى انتزعت حريتها وحمتها بالقوانين المرعية ووصلت إلى عصر مساواته أمام القانون، بعد أن عانت من الاستلاب المضاعف اجتماعيًا وقانونيًا، ولكن ما لم ينتبه إليه كل دعاة حقوق المرأة والمرأة ذاتها، أو لم توله حقه من العناية، أنه وعلى الرغم من هذا التقدم الهائل الذي أحرزته المرأة في كل المجالات والميدانين، أن التطوّر التقني وذروته العولمة، قد بات يتجه أكثر فأكثر نحو الذكورة المطلقة للمجتمع في كلّ شيء: نمط الحياة والعمل والتفكير والإحساس والقيمة، وذلك؛ لأن اكتساب المرأة صفات الذكورة، هو المؤهل الأهم لها، لكي تحقق حضورها المعنوي والعملي في عالم اليوم، ما يجعل من هذه القناعة الواسعة الانتشار-برأيي- إحدى قوى الاستلاب غير المنظور، وقد نجد مظاهره حتى عند بعض النساء الغربيات المثقفات والعاملات، إذ تتشهى العودة إلى سحر عالمها الأنثوي المفقود، أو الأقلّ انخراطًا وتوغلًا في علاقات السوق والانصياع لآلياته الماحقة. وقد بدأ هذا الشعور في التعبير عن نفسه، وبات يحمل طابعًا مأزومًا، يجد مناخاته وانعكاساته في ارتفاع نسبة النساء المكتئبات، والميل إلى الانغماس في الأجواء الصاخبة والماجنة، والشعور الكبير بالفراغ واللاجدوى، وارتفاع نسبة الانتحار؛ ما يعني أنّ القفزة الهائلة التي حققتها العولمة -تكنولوجيًا- وفي وسائل الاتصال والمعلومات، قد زادت في أزمة الوجدان الشخصي للفرد، وأسهمت في وضعه في حالة فصام كبيرة، بين عالم مضطر لمجاراته والانخراط فيه، ولكنه ظلّ في الواقع النفسي خارجه، ولم يستطع أن يجاريه. إن هذا الوضع الذي وجد أحد أهم تعبيراته في الميل إلى العنف بوجه عام، حتى ولوتمظهر بمظاهر مختلفة، دينية ولا دينية، بين مجتمع وآخر، تحتاج من العالم الحديث زيادة الاهتمام وإيجاد الوسائل والسبل التي تجعل منه عالمًا أكثر قبولًا من الناحيتين: النفسية والثقافية، علمًا أن علاج هذه الظاهرة التي لم يتحسس عالم الإنتاج أبعادها، يرتبط بجعل التطور التقني وإنتاج المعرفة، أكثر إنسانية وأكثر ملائمة لروح الإنسان ووجدانه ونمط تفكيره السليم غير المأزوم.

ولا أدري هنا، ومع ترجيحي لاستمرار اندفاع العولمة المتسارع بمتواليات هندسية، واستمرار إلقاء تبعاته الثقيلة على الأجيال، ومنها الخسران المتزايد في عالم اليوم والغد، لكثير من خصائص أنوثته الإيجابية، هل سيجد الجيل المقبل نفسه أمام نداء المرأة من جديد، ولكن هذه المرة، لتطالب بإنقاذ الأنوثة، لا بوصفها جنسًا؛ وإنما بوصفها حالًا إنسانية، تسهم في إعادة التوازن المطلوبة، بين الثنائية الكونية ذكورة/ أنوثة، لعل العالم يغدو أكثر قبولًا وأدفأ إنسانيًا، من عالم اليوم الواعد بمزيد من غربة الإنسان وانفصامه عن عصره، وحدة أمراضه وميله المتزايد إلى العنف!




المصدر