من المصارعة إلى حلبات السياسة… قوة ترامب المالية في الواجهة


جمال الشوفي

يحيل كثير من المحللين في العالم انتخاب الأميركيين ترامب إلى أنه استعادة لعظمة الذات الأميركية، التي تراجعت في العهد الأوبامي عن أن تكون قوة عظمى عالمية متفردة، وربما يكون في هذا الكلام جزء كبير من الحقيقة، إذ أدى انسحاب أميركا من العراق وتراخيها في الملف السوري واليمني وعدم حسمهما، إلى فتح المجال للقوة الروسية البوتينية بالصعود، ومحاولة ملء الفراغ في الشرق الأوسط، بوصفها منافسًا حقيقيًا يفرض شروط وجوده الإقليمي والعالمي بقوته العسكرية، خاصة في سورية. فقد نقلت CNN أخيرًا عن ترامب قوله: “يجب أن نكون بالتأكيد أقوياء، وينبغي أن نفرض العقوبات، وعلينا إظهار بعض القوة”، ووصف روسيا بـ “المشكلة الأكبر لأميركا” وأكد صدق ما قاله ميت رومني في السابق: “إن الرئيس أوباما كان ساذجًا، وأن احترام بلدنا سقط في ظل حكم الرئيس، وأننا فقدنا الاحترام”.

العالم يخشى ترامب

ترامب بالمعنى العام والواضح هو استعادة الفورة العالمية لهيمنة رأس المال بشكله المباشر، فبعد أن كان القانون العالمي السائد “بينما تبدو السياسة مهيمنة يكون الاقتصاد متحكمًا بالمآل الأخير”، وبعد أن كانت القوة المفرطة العسكرية هي المهيمنة في الأدوار الأميركية في العقود الثلاثة السابقة، في موازاة سياسة ناعمة، يُجمع كل المراقبين على أنها تدار من الخلف من بوابات سرية لقوى المال العالمي، المتركز بين يدي الشركات الكبرى العابرة للقارات في ظل عهد العولمة. إن بروز رجل مال بهذه السطوة، وحصوله على مقعد رئاسة الدولة الأكبر في العالم مثار جدل وتساؤل، بل وتخوف وخشية!

كانت الحركة العالمية على الإنترنت (آفاز)، التي تضم في عضويتها 44 مليون مشترك، قد حذرت من ترامب عدة مرات، مرة يوم انتخابه حين حشدت لمظاهرات ضده، ومرة حين حشدت لنقل مكاتبها خارج الولايات المتحدة خشية منه، وأيضًا (هافنغتون بوست) بالعربي تعنون: زر النووي بيده.. لا قيود على ترامب في استخدام أسلحة الدمار الشامل إذا أصبح رئيسًا.

منظمة (هيومن رايتس ووش) من جانبها، وعلى لسان رئيسها التنفيذي، كينيث روث، أشارت إلى أن: نجاح حملة دونالد ترامب الانتخابية، مثّل بشكل واضح سياسة التعصّب، وخطاباته الانتخابية “اخترقت المبادئ الأساسية للكرامة والمساواة”. وأضافت أنه: تحدّث بشكل مبتذل عن المهاجرين، وذمّ اللاجئين، وهاجم قاضيًا بسبب أجداده ورفض عدة مزاعم للاستغلال الجنسي وتعهد بدحر قدرة النساء على التحكم بخصوبتهن.

وفي سياق آخر، وصف السناتور الأميركي الديمقراطي، كريس كونز، اتصال الجنرال المتقاعد، مايكل فلين، مستشار الأمن القومي بإدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بالسفير الروسي لدى واشنطن في الفترة الأخيرة، بأنه أمر “مريب للغاية”، خاصة أن ذلك يتزامن مع زوبعة التحقيق في مزاعم امتلاك موسكو معلومات تستطيع ابتزاز ترامب من خلالها، وفي أعقاب استنتاج وكالات المخابرات الأميركية بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمر بحملة تأثير في الانتخابات الأميركية؛ لترجيح كفة ترامب، وتشويه سمعة نظيرته الديمقراطية آنذاك، كلينتون.

وزير الخارجية جون كيري وجه انتقادًا إلى ترامب أيضًا، على خلفية نقد الأخير لسياسات المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل تجاه اللاجئين: “أعتقد أنه من غير اللائق للرئيس المنتخب للولايات المتحدة الأميركية أن يتدخل بسياسات دول أخرى، لكن بدءًا من يوم الجمعة (اليوم) هو مسؤول عن تلك العلاقات. غير أني أعتقد أن علينا أن نكون حذرين حيال التعليقات التي نطلقها على إحدى أقوى قادة أوروبا قائلين إنها ارتكبت أخطاء معينة، لا أعتقد أن ذلك أمر لائق”.

لا يتوانى ترامب، الذي هدد المسلمين واللاتينيين سابقًا قبل انتخابه، عن تهديد كل من السعودية وإيران اليوم، ويتخذ مواقف متناقضة إزاء ملف المهجرين العرب والمسلمين خاصة، ويهدد بمنع المسلمين من دخول أميركا.

اليوم، وبعد خبو الصوت الأميركي على الصعيد العالمي، وتبوئ بوتين صدارة المشهد السياسي عالميًا، تبدو الأوضاع كلها متاحة أمام السطوة المالية للعودة إلى واجهة الصدارة العالمية، عبر ترامب وإدارته، لفرض شروطها بعد أن استنفدت الدبلوماسية السياسية الناعمة كل مقومات أثرها في حسم موضوعات الربيع العربي عامة، والسوري خاصة.

ترويض أم مواجهة

يضع صُنّاع السياسة العالمية اليوم، نصب أعينهم نقاطًا ثلاثًا محددة، تتجاهل على أساسها حقوق شعوب المنطقة وحرياتها، من حيث إحكام الهيمنة المطلقة على احتياطي البترول والغاز العالمي، ريثما تنجز مراكز أبحاثها إنتاج بدائل الطاقة العالمية، واستعادة السيطرة على الشرق الأوسط، بعد أن اجتاحته موجات التغيير السياسي التي تُنبئ بتغيرات سياسية واقتصادية عالمية بعد ثورات الربيع العربي، وثالثًا إعادة بناء قواعد وقوانين جديدة لمنظومة العولمة. فنظام العولمة الذي أتى على خلفية إنهاء نزاع عالمي، اسّس لقطبية منفردة، عبر شراكات عالمية اقتصادية، تجتاح الحدود القومية للدول كبيرها وصغيرها.

اليوم تعيد العولمة ترتيب منظومة العالم الداخلية، ليؤسس لشراكات مختلفة متغيرة حسب مصلحة الشركات الكبرى عابرة القارات، وأهمها “كارتيلات” الطاقة العالمية، ومصانع الأسلحة وتجارة المخدرات، وعليه تتغير قواعد الاشتباك والاتفاق والنزاع العالمي مرحليًا واستراتيجيًا.

فأميركيا التي استفردت بالقرار العالمي في كوسوفو وأفغانستان والعراق في العام 1991 و2003، إلى ليبيا عام 2011 مُحيّدة روسيا من الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حيوية في العالم، تجد نفسها اليوم في مأزق أمام نمو وتقدم الدب الروسي، لا في سورية وشرق المتوسط فحسب، بل في المنظومة العالمية ككل، وحلم الإمبراطورية الكبرى يراود بوتين في مواجهة النزعة الوحيدة لأميركا، فهل ستسمح الأخيرة بهذا؟ أم ستحاول استيعاب الروس في المنظومة العالمية بعد ترويضهم!

قال كارل ماركس يومًا: إن “أي فئة تطمح إلى الهيمنة، يجب عليها أولا التمكن من السلطة السياسية، لتمثّل بدورها مصالحها الخاصة كأنها المصلحة العامة”، واليوم تبدو المواجهة العالمية أقرب ما تكون بين القوى الكبرى في العالم، فكيسنجر، أحد أباطرة النظام العالمي الجديد ومؤسسيه، يقول في حديث له مع صحيفة “الديلي سكيب” الأميركية في تموز/ يوليو2016 إن: “ناقوس حرب عالمية ثالثة على الأبواب! فذهنية الاحتكار والهيمنة المطلقة ذاتها التي بنت النظام العالمي الجديد، هي التي تقع في أزمة اليوم، فلا يمكن لمنظومة منفردة سواء (الناتو) أو (البريكس) الناشئة أن تقبل بهيمنة مطلقة لإحداها دون الأخرى، وكلاهما يحاول ليّ ذراع الآخر دون كسره”.

هذه الذهنية أتاحت لترامب رئاسة أميركا، وهو صاحب الشركات المالية المفعمة بالوضوح وبنزعة الهيمنة والاحتكار، وهو، أي الشخص، الأكثر دراية بعقد الصفقات، والأكثر نجاحًا في المراهنات المالية، فهل ينقل تلك المراهنات من حلبات المصارعة إلى حلبات السياسة العالمية؟ وهل بإمكانه أن يُسقط رؤساء الدول كما في حلبات المصارعة؟ ويدفع بدول إلى الإفلاس كما في المنافسات المالية؟ وهل تتقبل السيادات القومية للدول الكبرى ذلك؟ أم تتعقل السياسة الأميركية وتلجأ إلى أسلوب الرشاوى الكبرى والتحكم المرن في موازين الاقتصاد العالمي، حسب رأي المنظّر الروسي ألكسندر دوغين، عند وجود أمتين متصارعتين عالميًا دون مواجهة مباشرة.

هل تستطيع إدارة ترامب المالية استيعاب الفورة الروسية وترويضها في المنظومة العالمية، بعد أن فشلت القوة الناعمة الأوبامية في ذلك؟ وهل سيقدم ترامب على تقليم أظافر كل أطراف الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط، وهل سينعكس ذلك إيجابًا على سورية والسوريين؟

لم يعد المال القوة الخفية المحركة للعالم وللسياسة، بل القوة المباشرة دون مواربة في تحريك الحدث وتوجيهه، وبروزها الفج للعلن، سيكون بمواجهة حقوق الإنسان والديمقراطية والمفاهيم الإنسانية والمدنية، والدول القومية ذات السيادة أيضًا، ما يقود للعودة إلى نظام الصفقات المالية الكبرى، وإن لم تنجح فطبول الحرب ستقرع مرات ومرات، ولربما سيتحول العالم لحلبات مصارعة مالية وسياسية، فما بعد 20/1 لا كما قبله ودولة المؤسسات الكبرى، أميركا، على المحك كما العالم وإن غدًا لناظره قريب.




المصدر