يوسف عقيل مُتصوِّفًا في عِشقِ حلب


نجم الدين سمان

أولُ لوحةٍ اشتريتها في حياتي؛ كانت ليوسف عقيل؛ من معرضه في “منتدى الشهباء”؛ همستُ له: – أريد تلك اللوحة. وأشرتُ إليها.. ينبِثقُ الضوءُ من خلفِ شجرةٍ وحيدةٍ فيها؛ بينما الأرضُ تتشكل على هيئة امرأةٍ نائمةٍ في انتظارِ الفجر؛ وثمَّةَ في البُعد الرابع؛ تتبدّى ثلاثُ بيوتٍ طينية؛ من تلك التي مازالت في ريفِ الشمال السوريّ؛ تُشبِه استداراتِ الأنوثةِ بقِبَابِهَا الناهِدَة؛ بينما هي من طينٍ وماءٍ وقَشّ.

تابعتُ همسي لهُ: – بالتقسيط؛ وخَفِّض لي السعر؛ حتى لا أقولَ بأنّكَ تُهدِي لوحاتِ مَعرَضِكَ عادةً؛ ولا تبيعها. ضحك يوسف: – “بتعملها”!. ثم ألصقَ دائرةً حمراءَ في زاوية إطارها الخشبيّ؛ وكتبَ على اللائحة بجانب الرقم ثلاثة: مُباعَة لنَجم.. نعتذر عن إهداء لوحاتنا!

كنتُ قد كتبتُ عن معرضه الأول في المتحف الوطني بحلب؛ وعن تعبيريته التجريدية التي تلتقطُ ظلالَ النفوس والأشياء؛ لتُعِيدَ تكوينها كما لو أنها تَظِلُّها. بعد انتهاء ضوضاء افتتاح معرضِهِ الثاني؛ سألني يوسف: – لماذا اخترتَ هذه اللوحة بالذات؟! قلتُ: – لأنها البَرزَخُ الذي عَبَرتَهُ من تجريدِكَ الذي تتقاطع فيها مع كثيرين؛ إلى خصوصيَّتِك التي تتقاطع فيها وحدكَ مع مدينتِك.

هَزَّ يوسف عقيل رأسَه وكأنما لا يدري بأن تلك المرحلة ستغدو كلَّ حياته؛ فعلّقَ قائلًا:

– سيكتب النقّاد التشكيليّون بأنّي أتشبَّهُ بالمُستشرقين الذين رسموا حلب؛ وفي أفضل حالٍ سيقولون بأنِّي أُقلّد الفنانين الأوائل من أبنائها حين رسموا مدينتهم بواقعيةٍ تُشبِه واقعية الصورة بالأبيض والأسود؛ ولكن بالألوان على قماشٍ أبيض. قلت له: – اطمئِن.. ليس لدينا نُقّادٌ تشكيليون حتى لو ادعوا ذلك؛ لدينا ذَوَّاقَةُ فنٍ تشكيلي؛ ثم كتبَ أحدُهُم انطباعاتِه ونشرَهَا بالصُدفَةِ المَحضَة؛ فأغدقوا عليه لقبَ الناقد التشكيلي!

كان يوسف عقيل قَلِقًا من مآلاتِ معرضه؛ أما أنا فمُشَاهِدٍ وحسب؛ أرى اللوحاتِ بعينِ الكاتب؛ وأتمنّى لو أنِّي بالكلمات أُعيدُ رَسمَ ما لا أستطيعُه بالريشةِ واللون؛ ولهذا أكتفي بكتابة انطباعاتي عمَّا رأيت.

بعد الافتتاح سمعتُ آراءَ ما حولي من الوسط الثقافيّ والفنيّ في حلب؛ بعضُها يُشبِهُ نقيقَ الضفادع على ضفتيّ نهر “قويق”!. قال أحدُهم بإيحاء من خلفيّته الأيديولوجية الشيوعيّة:

– هذه لوحاتٌ لتزيين صالوناتِ الأغنياءِ الجُدُد. ولَطّفَ آخرونَ العِبَارةَ: – لوحات استشراقية. أما أنا فكتبتُ عنوانَ مقالتي: يوسف عقيل مُتصوِّفًا في عِشقِ حلب؛ ثمّ استبدلتُ الورقةَ بأخرى جديدة، وكتبتُ العنوان التالي: حين نرى حلب بعيون يوسف عقيل.

أعترفُ الآن.. بأنّ العنوانَ الأول؛ كان الأكثرَ تعبيرًا عن الحالة التي استغرقت يوسف طوالَ حياتِهِ التشكيلية؛ ولهذا أستعيدُهُ الآن عنوانًا لمقالتي هذه؛ بعد 25 سنة من مقالتي تلك؛ وَقتَها آثَرتُ تجنُّبَ نقيقِ وسطنا الثقافي:

– المُتصوِّف.. طبعًا يا عَمّ؛ لأنه صديقُكَ وأنت مُنحَازٌ إليه.

لن يُصدِّقَ أحدٌ بأنّي صادقتُ لوحاتِه أولًا؛ قبلَ أن أتعرَّفَ إليه؛ ولن يُصدِّقَ أحدٌ بأنّي عايشتُ مَخاضَ كثيرٍ من لوحاتِهِ؛ تحت قُبَّة مَرسَمِه الحجريّ في حديقة بيته؛ وبيتُه كان في غرب حلب؛ في آخر “حيّ الجميلية”؛ الذي بدأ البناءَ فيه “جميل باشا” والي حلب العثماني؛ مُنتقلًا إلى الضفة الأخرى من نهر “قويق”؛ بعيدًا عن ضجيج المدينة التي اجتازت سُورَها التاريخيّ؛ وتوسّعَت على حساب البساتين.

انتقلَ يوسف عقيل -أيضًا- من شرقي حلب العتيقة إلى غربها؛ كحال كثيرينَ من أبنائها؛ لكنّه استقدَمَ مِعمَارًا من شرقها بالذات؛ ليبني لهُ مَرسَمه على شكلٍ غُرفةِ مُربَّعَةٍ من الحجر الأشهب بنوافذ مُقرنَصَةٍ مفتوحة على الاتجاهات الأربعة؛ أتمَّهَا بِقُبّةً على غِرَارِ قِبَابِ البيوت الطينيّة في ريف حلب؛ وعلى غِرَارِ الزوايا الصوفيَّة فيها؛ وعلى غِرَار  قِبَاب مساجدها وكنائسها الألف؛ وعلى غِرَارِ قِبَابَ حَمَّامَاتِها الشعبية؛ تتخلّلُ أقواسَها دوائرُ زجاجية لتتيحَ داخلَهَا للضوء. وهكذا تحوَّلت إيراداتُ لوحاتِ معرضه الأول عن أسرار مدينته؛ إلى مَزَارٍ تشكيليّ لِمُتصوّف في عِشقِ شَهبائِه؛ يعتكف داخلها عن ضجيجِ ما آلت إليه؛ وما تغيَّر فيها؛ وما سيتغيَّر.

كأنما أمضى يوسف عقيل أغلبَ حياتَهُ.. يحمِي بالظلّ والضوء واللون شهباءَهُ من دمارِ بعضِ أرواحِ أبنائِها؛ قبل دمارِ حجارتها بكثير. هل كان يَهجِس بأن حلبَ ما أن تنهضَ من دَمَارٍ؛ حتى يحلَّ بها دمارٌ جديد: سواءً بعد زلازلها الثلاث؛ أم بعدَ كلِّ غُزاتِها وطُغاتِها؟!.

تأخذكَ لوحاتُ يوسف عقيل من أطرافِ روحك؛ لتعبر بك من صلابة الحجر في شهبائه؛ إلى الحنين الأشهب الهشّ الذي تبلور داخلَه؛ ومن قشور دنياها إلى جوهرٍ فيها لا يُدركَ سوى في لحظة تَجَلٍّ صوفيةٍ تصعدُ بنا من وحول دُنيانا إلى صلوات النور؛ كما من صَرامَةِ حلب الخارجية إلى رهافتها الداخلية التي قد تخطئها العينان معًا؛ فلا نراها سوى بالعين الثالثة: عين البصيرة.

في لوحاته صَيرُورَةُ مدينتِه؛ وليس سَيرُورَتها اليوميّة؛ حتى لو أنّ الحَمَامَات “الستِيتِيّة” البيضاء تتوالدُ في باحات بيوتها؛ تبني أعشاشها كلَّ مرَّةٍ في مُقرنصات نوافذها؛ وحتى في مآذِنِ جَوامِعِهَا؛ لِتَنسَرِبَ من نافذة قاعة العرش في القلعة؛ تُنصِتُ إلى أنينِ سُجَناءِ العَرش في “حَبسِ الدم”. لا تكاد تخلو لوحةٌ ليوسف عقيل من تلك الحمامة البيضاء؛ يغتسل بياضُ ريشها بألوان ما حولها من جَماَلٍ رهيف؛ وبتدرجات الظلّ في باحات البيوت؛ وبين الأزقة الحجريّة الضيّقة؛ وبذاك الضوءِ الشفيف؛ الآتي من حيثُ نتوَّهَمُ بأنّا نَعلَمُ من أين!

لمرَّةٍ واحدةٍ -ربما- غابت الحَمَامَة عن لوحةٍ له؛ وحلَّ بدلًا منها غُرَابٌ أسود؛ ينطلقُ نَعِيقٌهٌ باتجاهِ قلعة حلب؛ والغراب ” نذيرُ شؤمٍ” وربما نذيرُ عاصفةٍ من القَصف سوف تطَالُ المدينة؛ وبخاصةٍ شرقَها العتيق.

ليست التفاصيل في لوحات يوسف عقيل مُجرَّدَ توثيقٍ لفنون العمارة الداخلية في حلب؛ ولا مُجرَّد زخرفةٍ خارجيّة؛ إنها ما يتركُهُ الزمانُ من أثرٍ.. حين يمرُّ بتلك الأمكنة؛ بل إنه يَخدِشُ الحَجَرَ بإزميلِ صَيرورَتِه ليتركَ فيه علامته المُسجَّلَةِ باسم حلبَ وحدها؛ من دونِ مُدُنِ الخليقة.

لم أكن بحاجةٍ.. قبل أن أكتب هذا المقال؛ للعودةِ إلى لوحات يوسف عبر “غوغل” فلطالما اقترنَ اكتشافي لحلبَ، بها؛ ففي حُجرةٍ من دماغي صورُ ما اكتشفتُه منها بالعينِ المُجرَّدة؛ أو عِبرَ عينِ كاميرتي؛ وفي حُجرةٍ من روحي ما اكتشفتُ من الشهباءِ عبرَ لوحاتِ يوسف عقيل. وكانت تُرَاوِدُنِي تلك اللوحات؛ كأنما يرسمها يوسف أمامي لتوِّهِ؛ كلّما قرأتُ أو شاهدتُ صورةَ مدينته وهي تحت القصف؛ أقصدُ حلبَ التي وُلِدَ يوسف في شرقها؛ وحملها معه إلى غَربِها؛ بينما حملتها معي إلى تغريبتي؛ لم تكتشفها أجهزةُ الفحصِ في المطارات؛ قبل أن أستقرّ في إستانبول توأمِ حلبَ في عَمَارتها، يمتزج فيهما البيزنطيُّ بالإسلاميّ؛ بل كان يُقَالُ عن حلب في العهد العثماني: إستانبول الصغرى!

طوالَ ثلاثِ سنواتٍ من قصف النظام الأسديّ لحلب؛ وخلالَ مقتلتها الكبرى الأخيرة؛ أدركتُ قيمةَ أن نستعيدَ مدينةً من دمارها؛ حين نجمعُ كلَّ لوحاتِ يوسف عقيل لنَعرِضَهَا في فضاءِ دَمَارِهَا ذاتِه؛ نُعلّق لوحةً منها.. حيث تتدلَّى “كُلّةِ معروف” الحجريّة من قُبَّة “باب النصر”؛ ولوحةً على جدارٍ تَدَاعَى بالقصف في “حيّ الفرافرة” ولوحةَ بينَ ما تبقّى من دكاكين سُوقها العتيق: “المدينة” المُكتفي بذاتِه كمدينةٍ في قلبِ مدينته؛ أكبرِ الأسواق المسقوفةِ في الشرق كلّه.

سنعلّق –أيضًا- لوحةً في “خان الجمرك” وأخرى في “خان الوزير” وثالثةً في “خان الشُونَة” ورابعةً في بيت “أجَق باش”؛ وخامسةً في كهفِ “حبس الدم” داخلَ قلعتها مع شمعتين.. حيثُ تتراكم عِظامُ وجَماجمُ كلّ من قال: لا.. للاستبداد؛ على مَرِّ طُغاتِهَا.

سنُعلِّقُ لوحاتِهِ -كذلك- في “ساحة الحَطَب” وقد أصابها القصفُ بالعَطَب؛ كما أصابَ ما حَولَهَا من البيوت الرهيفَةِ في حَيِّ “الجدَيدِة” بتسكين الجِيم؛ كما أسماها الحلبيونَ اختصارًا لحلب الجديدة التي تكوّنت غربًا خارجَ سورها منذ قرون.

لا بدّ أن نُقيمَ مع يوسف عقيل هذا المعرضَ ذاتَ يومٍ؛ نأتي بلوحاته التي اقتنيناها؛ وبالتي ما يزالُ طريًا زيتُهَا على قِمَاشِه المشدود؛ في قُبّة مَرسَمِه؛ ليكونَ لحلبَ أولَ علامةٍ على قيامتها من جديد؛ وسط خرابها غيرِ المُقيمِ فيها للأبد؛ وحيث يموتُ كلُّ استبدادٍ، ظَنَّ بأنه سيدومُ فيها إلى الأبد!




المصدر