دافع عن معرضه العاري فكشف عريًا آخر!

22 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

9 minutes

مصطفى الولي

كتب يوسف عبدلكي ردًا على منتقديه، بسبب افتتاح معرض له في دمشق أخيرًا، ونشرته صحيفة القدس العربي في 9/1/ 2017، وبنى عبدلكي مرافعته عن نفسه بوجه منتقديه، ولنقل خصومه أيضًا، على قاعدتين: الأولى التي شكلت المادة التمهيدية المطولة للمقال سياسية. والثانية وجدانية ذاتية توسل منها كفنان تسويغ افتتاح معرضه التشكيلي الذي قال عنه هو بعظمة لسانه: “معرض عاريات”.

سأتناول، مباشرة، القاعدة الثانية الوجدانية الذاتية الإنسانية، التي وضعها هو في المركز الثاني في كتابته، حيث نجد أن عبدلكي ساق مسوغه الأول في قيام معرضه وحلب تُدمَّر وتحترق، بأن المعرض أعدّ له منذ سنة، وهو ليس “مُنجّمًا” ليعرف أن موعد افتتاح المعرض سيكون ذاته يوم مذبحة حلب وتدميرها. وينطوي هذا الدفاع على سقطة كبيرة وجوهرية، وكأن البلاد قبل حلب كانت بألف خير وتنعم بالأمان والاطمئنان، ولا قتل يومي في جميع أرجاء سورية من شمالها إلى جنوبها. مذبحة حلب وتدميرها لم تأت -كما يقولون- “صاعقة في سماء صافية”، فحتى المستشرقين غير المعنيين مباشرة بمصائر الشعب السوري وأحواله، كانوا يعلمون أن في سورية “مقتلة”، سواءٌ حمّلوا النظام المسؤولية عنها، أو سواه، أو وزعوا المسؤولية على أكثر من طرف، فكيف ويوسف عبدلكي المناضل اليساري المهتم لحظة بلحظة بقضية البلد، والمتابع لكل الأجندات السياسية، كما أشار في مقالته الدفاعية. أم أنه كان مستغرقًا في حلمه- وهمه، عن حل سياسي يُوفّر الأمن والحرية للبلاد، قبل موعد المعرض، يُنهي كل ما شهدته سورية من جرائم وحشية، لا تتوزع المسؤولية عنها بالتساوي أبدًا بين النظام الدموي الهمجي، وقوى الثورة، والقوى السلفية والإرهابية.

سأتجاوز مسألة التزامن و”التنجيم”، وسنفترض أن عبدلكي فاجأه تزامن مذبحة حلب مع توقيت افتتاح معرضه، ألم يكن خياره بتأجيل الافتتاح، أو حتى إلغاء المعرض إلى غير رجعة، طالما الذبح والتدمير على أشده في أرجاء البلاد وحلب تحديدًا؟ وهو يعلم تمامًا أن خيارات كثيرة كانت كفيلة بإيجاد حل مُشرّف للمسألة. لكن تتمة مرافعته عن توقيت المعرض، ومبدأ افتتاحه في العاصمة دمشق، تكشف عن اعتباره للخطوة دليل حياة بوجه الموت ورائحة الدماء التي لحقت بالسوريين وملأت فضاء البلاد على امتداد خمسة أعوام. وأظنه خجل أن يقول: معرضي يُشكّل مواجهة للمذبحة في حلب!

أما عن موضوع اللوحات “العري”. للفنان حريته نعم، لكن تجسيده للحرية بفنه هو ما يجعل المتلقين للإبداع يتصلون مع صميم اللوحات، وما تثيره في نفوسهم من مشاعر وأفكار وتخيلات، تتحول إلى متعة للذائقة والروح، حتى والفن التشكيلي هو الأبعد مسافة عن حصيلة الخبرات الفنية لعموم الناس. وللزمن تأثيره في علاقة المتلقي بلوحة الفنان أو قصيدة الشاعر. ولا أدري على أي فلسفة اعتمد عبدلكي، أو أي منهج فني استخدم، ليرى في معرض “العري” في زمن المذبحة، إبراز لقيمة الحياة ضد الموت، ولفضاء الحرية ضد الاستبداد، ولبؤرة الضوء ضد الظلام.

المفارقة المثيرة للاستهجان، أن يكون عبدلكي، قبل ربع قرن وربما أكثر، وكان الزمن “رماديًا” كما يقولون، قد أبدع لوحة، لازالت في مخيلتنا، لحصان مهلهل متهافت مُقطّع الأوصال، وموصول بعضه ببعض بخيوط محبوكة و”مدروزة” بضعف. ويومها فهم من شاهدها، وهم كثر، أنها تعبير واضح عن حال السلطة وبنيتها ومكوناتها. كان ذلك حين كان الشعب يغط في سبات تحت وطأة عوامل معروفة. في زمن الثورة، لا بأس بالعري رمزًا وإحالة، لكن العري العاري “المجاني”، في زمن الثورة، حتى التي يرى عبدلكي أنها هُزِمت، يصلح رسالة ذاتية لفنان يريد مزيدًا من الرصيد على المستوى العالمي، ولا بأس من حصد الجوائز!

يعرف العدد الأكبر من القراء، وقبلهم الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي، قصة لوحة GUERNICA لبيكاسو، الذي ما كان منخرطًا في الحرب الإسبانية، ولا ينتمي لاتجاه سياسي، لكن قصف النازيين لبلاده وتدمير مدينة غرينيكا حرّك مشاعره الإنسانية، فكانت اللوحة التي تتربع في المصاف الأعلى من بين لوحات التشكيليين العالميين. وكان رده على ضابط الجستابو الألماني الذي زار معرضه في باريس المحتلة من النازيين، عندما قال الضابط: “إذن أنت من صنع هذه اللوحة؟” فقال بيكاسو: “لا أنتم الذين صنعتموها.”

لا نطلب من عبدلكي أن يكون بيكاسو، أو سواه من تشكيليي العالم الذين برزوا بمواقفهم الإبداعية من خلال لوحاتهم، بوصفهم أعظم مدافعين عن الحياة، فهذا شأنه. لكن لا نقبل ذريعته لتسويغ افتتاح معرضه، وبلاده تتعرض لأبشع مجازر القرنين العشرين والواحد والعشرين، أنه قام بذلك تعبيرًا عن انتمائه لروح الشعب ومشاعره، فبأي حق يجوز له هذا الادعاء عن معرض لا يتصل بأي جانب من معروضاته بالحياة الحقيقية التي يعيشها السوريون.

لن أستفيض في هذه المساحة المتاحة، بالجانب الفني الذي دافع به عبدلكي عن نفسه في افتتاح معرضه، وسأنتقل إلى مرافعاته السياسية والتحليلية لوضع سورية بعد انطلاق الثورة، وسأحيل القارئ إلى فكرتي في الربط بين نظرة عبدلكي السياسية، وبين استخفافه بالحقائق ما جعله يرى معرضه “العاري” أمرًا طبيعيًا، ويشكل متنفسًا من حالة الاختناق من رائحة الدم.

ما ذكره عن مجريات الثورة هو “مانفستو” سياسي واضح الاتجاه، ينطلق من أن التناقض، داخل المعارضة، منذ بدء الثورة كان بين الذين يريدون النضال السياسي المدني، وبين من يدعون إلى العسكرة والتسلح. ومن تابع تطورات الثورة من أولها، وقبل نشوء مصطلح ما يُدعى “داخل وخارج” يعلم أن الخلاف والانقسام كان بين من يريدون العمل للتغيير تحت سقف استمرار النظام، ومن يقولون بانتهاء سلطة النظام وضرورة العمل على تغيير الدكتاتورية.

حين أتى على “داخل وخارج”، جعل من الموجودين في الداخل هم دعاة الحل السياسي (السلمي)، ومن هم في الخارج، دعاة الحل العسكري، وسلوك طريق العنف. وهذا –أيضًا- ليس حقيقة، فكثير من المعارضين الموجودين في الخارج هم من الداعين للحل بالتشارك مع النظام، وهو ما يُسمّى بالحل السياسي، وكثيرون من الداخل يدعون لتغيير النظام وإسقاط الدكتاتورية، ولا يستبعدون الحل السياسي لقضية العنف المسلح ووقف إطلاق النار. لكن عبدلكي ينتمي إلى التيار الذي لا يرى ضرورة للتغيير الجذري في التخلص من سلطة الدكتاتورية، باعتبار ذلك مستحيلًا.

يُعلن عبدلكي بيان نعي للثورة، فهي بنظره أصبحت عصابات إرهابية سلفية ظلامية مسلحة، منذ العام 2012، متجاهلًا كل تظاهرات البلدات والقرى ذات الشعارات المدنية والديمقراطية، فحتى بعد اجتياح التحالف المعادي للشعب السوري مدينة حلب، هبت الكثير من المدن والبلدات لتملأ الساحات بهتافات الحرية. وصولًا إلى حكمه أن ما يجري في البلاد أصبح صراعا إقليميا لا دور أو مصلحة للسوريين فيه.

وتناغمًا مع طروحات السلطة، بقصد أو من دون قصد، انتقد عبدلكي عدم إعطاء الأقليات الاطمئنان، الواجب على المعارضة ” الخارجية” أن تقدمه في حال تغيير الوضع في البلاد، ما أدى في نظره إلى استفادة النظام! وهذه المعزوفة أصبحت قنطرة تمر تحتها ميليشيات وعصابات “الفاشست” الطائفيين لتدمر الثورة وتتربع على البلاد باسم حماية الأقليات. فلتُسحق الأكثرية إذن! أهذا ما يحقق الاطمئنان؟ مجرد سؤال لعبد لكي وسواه كثر.

لن أطيل في السياسة التي جاءت في مقالته، لكن أشير إلى أن ما أورده من نقاط سياسية، تجعل من ادعائه بالتفاجؤ بين توقيت معرضه ومذبحة المدينة، غير ذات قيمة، لأن مداخلاته السياسية الدفاعية لا ترقى إلى إمكانية تخليه عن المعرض بسبب ظروف البلاد، التي لم تبدأ من حلب ولن تنتهي عندها. وهو بما كتب حول معرض العري، دفاعًا عن افتتاحه، ظهر بعري آخر في نقاط سياسية جوهرية، لا يعود المعرض هو الأسوأ في تجربة يوسف عبدلكي في زمن الثورة التي: لم تنته… ولن تنتهي.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]