الرعوية كأصل تشبيحي


مضر الدبس

هل تحتاج الأمم إلى سيد أو إلى بطل؟ هل الحاجة إلى القيادة تتضمن -في الأساس- حاجةً إلى الانقياد؟ هل كان من الممكن أن ينجح الالتباس الممنهج بين “سلطة الدولة” و”دولة السلطة” لولا إدغام مفهومي الرعوية والمواطنة في حديث الشارع/ المجتمع غير المُسيس؟

عندما استسلم غاليلو لتهديد محاكم التفتيش في مسرحية “حياة غاليلو” للمسرحي “برتولت بريخت”؛ قال له أحد تلامذته: “شقيّ هو البلد الذي لا بطل له”، فكان رَدَّ غاليلو: “شقيّ هو البلد الذي يحتاج إلى بطل”. ولا يهم -في اعتقادنا- بعد تراكم هذا النوع من الشقاء، إذا كان هذا البطل هو القائد الخالد، “رمز الأمة العربية”، والأب الذي يتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية ويسحق أدواتها الداخلية المجرمة؛ أو إذا كان البطل “مناضلًا” ينتمي إلى أي فكر أيديولوجي آخر (وإن كان معارضًا للأول). ذلك لا يهم؛ لأن البطلين كليهما من دون بطولة أولًا، ولأن الأمم لا تحتاج إلى أبطال ثانيًا.

يُختزل الوطن عند بعضهم إلى مفهومٍ عصبوي، شبيه بمفهوم “غزية” عند “دريد بن الصمة” حين قال: وهل أنا إلا من غزية إن غوت    غويت، وإن ترشد غزية أرشد؛ فيدخل هذا “البعض” في حالة تشبيحية كامنة، تتشكل نتيجةً لسلسة اضطرابات نفسية، تبدأ من الخلل العقلي المتضمن في تسمية حاكم بـ “الأب القائد الرمز” ثم يخاطب هذا القائد “شعبه” بـ “الأخوة المواطنون”. وفي الحقيقة لا يمكن الجمع بين تعبيري مواطنة/ مواطن و”أب قائد إلى الأبد”؛ فالأولى مفردات حداثية ديمقراطية، والثانية مصطلحات قبلية توتاليتارية. بذلك يكون هؤلاء مواطنين بحسب مخرجات الأسطورة السائدة، وفي المخيال القبلي العصبوي، ولكن في الواقع هم رعايا فحسب. والرعوية -هنا- نتاجٌ عصبوي وليست نتاجًا سياسيًا، وكل ما يمكن أن يقال عنها سياسيًا: أنها مضادة للوطنية والديمقراطية والإنسانية.. يمكن في سورية أن نصف هذه العصبية بـ “العصبيّة الأمنية” (نسبة إلى أجهزة الأمن)، وهي تتغذى على “أيديولوجياتٍ مقدسة” تجترها، (كالقومية العربية مثلًا)، وهي متعددة الأوهام، وتُسخر العلويّة، (بالمعنى العصبوي الخلدوني للمصطلح المذهبي)، والبرجوازية الطفيلية التي تعتاش على امتيازات الفساد، والنهب المنظم، المتشابك مع المنظومة الأمنية الغرائزية. ومن ثَمّ؛ تتكفل هذه التوليفة “الأمنية” بتحويل التشبيح الكامن المتوالد باستمرار إلى تشبيحٍ فاعل، وفي أي وقتٍ تريد.

يمكن أن نتفاءل ونقول: إن ثورةً عظيمةً قد قامت ضد هذه المنظومة بكليتها، ولكن لن يكتمل هذا التفاؤل، قبل الوعي بأهمية حكمة “بريخت” السابق ذكرها. وذلك؛ بصفتها ضرورة لازمة لثقافة المواطنة، بما تحمله من نفي لوهم القائد المُخلّص، وبما تحمله من تأصيل لعلاقة جدلية سليمة بين قيمة الفرد وقيمة الجماعة التي ينتمي إليها. تواجهنا في هذا السياق الحقيقة التي تنزع عن أعيننا بعضًا من غشاوةٍ تراكمت على مدار ما يزيد على أربعة عقودٍ خلت: إن البحث عن قائد بدافع إرضاء حاجةٍ مَرضيِّةٍ إلى الانقياد، لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الوهم، وخلق “أبطال” من دون بطولات، وإعادة إنتاج التشبيح. هذا الحكم -في اعتقادنا- صالح للتطبيق على السوريين جميعهم؛ فالحاجة إلى القائد حاجة تنظيمية سياسية، تمليها الضرورة الناتجة عن الاجتماع، وليس للمشاعر الفردية ولعلم النفس بالعموم من أهمية في هذه المسألة. بل إن إقحام الحب والكره -مثلًا- في هذا الموضوع على غرار شعار “منحبك” هو مرض نفسي فصامي يتكون لدى صاحبة “ميول تشبيحية كامنة”، يمكن أن تتحول إلى تشبيح فاعل بعد أن تُحفَّز عبر “العصبية الأمنية” أو من يقوم بدورها.

أخيرًا؛ نعتقد أن من أهم ما أصَّل لثقافة التشبيح على المستوى الاجتماعي السوري كان الإدغام الممنهج لمصطلحات مثل الدولة والسلطة، النظام السياسي والدولة، الحزب والبعث، المقاومة والوطنية، الخيانة والمعارضة… وإلى آخر ما هنالك من ثنائيات مشابهة. ويبقى الإدغام الإجرامي الذي مهد لكل ذلك هو إدغام الرعوية والمواطنة. ويأتي القلق المستقبلي من استمرار هذا اللبس، الذي يمكن أن يكون خطرًا كبيرًا، ويمكن أن يهدد أي محاولة جديّة لبناء الدولة الوطنية السورية. الأمر الذي يحمّل السياسيين السوريين الوطنيين جميعهم مسؤولية نشر فكر المواطنة والتربية المواطنية بدلًا من التربية العسكرية والتربية القومية الاشتراكية والإعداد العقائدي.




المصدر