on
اللاجئون والاندماج والمؤامرة
علاء الدين الخطيب
(رد على مقال السيد علواني: ثقافتنا وثقافتكم)
يثير السيد عبد الواحد علواني في مقاله “ثقافتنا وثقافتكم (في سياسات الاندماج الأوروبية)” على شبكة (جيرون)، موضوعًا وإشكالًا أساسيًا يواجه اللاجئين في أوروبا، وأفضل تسميته بـ “الصدمة الحضارية”. لكن السيد علواني تناول هذا الموضوع من خلال تجربة وانطباع شخصي، لم يخدم كشارح الفكرة، بل كقيد عليها؛ ما أوقع التحليل في تناقضات عديدة، يمكن اختصارها بما يلي:
- عنوان المقال “ثقافتنا وثقافتكم”، يضع حدًا فاصلًا بين جماعتين بشريتين: نحن وهم، فإذا فرضنا ان “هم” تعني الغرب، فإن “نحن” –بالتأكيد- لا تعبر عن وحدة ثقافية للاجئين في أوروبا، فلا يمكن لأحد ادعاء أن ثقافة السوريين هي نفسها، أو قريبة من الأفغان أو الأفارقة، ولا حتى قريبة بما يكفي من المغربي والتونسي؛ فإجمال هذه الجماعات بـ “نحن” خطأ أساسي في التحليل.
- السيد علواني يدعي أن الثقافة الغربية متعالية، ويدلل على ذلك من خلال طرح مشكلة “العنف الأسري”، لن نناقش الفكرة كاملة حول تعالي الثقافة الغربية، لكن المثال محور المقال وحسب. هنا يتخذ المقال موقفا دفاعيًا. فالمقال يبدأ بحقيقة يقررها الكاتب، وهي أن الطرف الغربي الذي اختصره الكاتب بشخص غربي، يتهم الثقافة العربية بأنها تشجع العنف الأسري، وينطلق الكاتب لمناقشة العنف الأسري ونفي هذه التهمة.
- من المهم التذكير بحقيقة لا يراها المقال في نقاشه، وهي أن الإنسان –طبيعيًا- في أي مجتمع لا يميل إلى العنف، خاصة مع أسرته والأقربين، والعنف الأسري حالة قليلة إحصائيًا في أي تجمع بشري. كما أن حالات العنف الأسري، بنسبتها القليلة، كانت تاريخيًا موجودة في جميع المجتمعات البشرية، بلا استثناء، وكانت أيضًا محمية ببعض الأعراف والتقاليد حول حقوق الرجل -الأب، ولم تسلم مجتمعاتنا تاريخيًا من هذه الثقافة المتساهلة مع العنف الأسري. ما حدث بالغرب كان صعودًا متدرّجًا لثقافة جديدة، أخذت في التسارع منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي؛ لإرساء قيم أخلاقية وتربوية وروادع قانونية تحد من العنف الأسري، أي: إن الغرب أيضًا عانى من هذه المشكلة، ويستمر في ملاحقتها في زمننا الحاضر، فهي ما زالت موجودة، لكن بنسب أقل بكثير بالموازنة التاريخية لأوروبا مع المجتمعات الأخرى حاليًا.
- محاولة الكاتب نفي وجود هذه الظاهرة – المشكلة في مجتمعاتنا، هروب من مواجهة الحقيقة، فما زالت مجتمعاتنا إلى الآن تعيش مرحلة المجتمع الذكوري التسلطي، بدءًا من الديكتاتور السياسي وصولًا إلى الذكر المتحكم بالعائلة؛ هذه المشكلة تراجعت قليلًا خلال العقود الماضية، لكنها نسبيًا ما زالت موجودة، وبحدة، مقابلة بالمجتمعات الأوروبية.
- لا أعرف كيف عمم الكاتب بعض القراءات المنتقاة؛ ليحول ثقافتنا العربية إلى ملائكية تنبذ العنف الأسري نبذًا حازمًا؛ فاستخدام الضرب في المدارس الحكومية ما زال منتشرًا في جميع مجتمعاتنا منذ قرون طويلة، وضرب المرأة ما زال موجودًا، وأمام محاكمنا وبكثرة؛ فلا معنى لادعاء الطهرانية، وكأن مجتمعاتنا فوق البشر.
- للأسف لم تطوّر مجتمعاتنا منظومة قانونية وقيمية وأخلاقية تنبذ العنف الأسري بحزم وقوة، كما حصل في الغرب خلال القرن الماضي، بل ما زال عدد من القنوات الإعلامية، وخاصة الدينية منها، تبرر العنف؛ بحجج أنها ضرب بمسواك، وغير مبرح؛ فثقافتنا بالتأكيد لا تشجع العنف الأسري، لكنها لم تطور رادعًا حازمًا في وجهه، وهنا الفرق الأساسي.
- لا أعرف –أيضًا- من أين حكم الكاتب أن غاية سياسات الاندماج هي نسخ ومسح الذات الوافدة! هل هذا الحكم –أيضًا- ضمن سياق تفسير المؤامرة، أم بُني على تحليل متكامل لهذه السياسات؟ بالتأكيد ليس هذا الحكم قائمًا على تحليل هذه السياسات، فجميع القوانين والدساتير الغربية؛ وحتى القيم الأخلاقية، تقوم على حماية التنوع الثقافي وحرية المعتقد والسلوك الشخصي، طالما أنه لا يتعارض مع قيم حقوق الإنسان والمرأة والطفل. فهل يقصد السيد علواني سياسات الاندماج الأوروبية حاليًا؟ في الواقع كل هذه السياسات لا تشترط سوى شروط بسيطة: تعلم لغة البلد، احترام قوانينه ونظامه وقيمه، السعي للانتقال إلى مرحلة العمل المنتج؛ فهل هذا كثير ليُطلب من ملايين أتوا طلبًا للأمان والحرية والكرامة؟ أليس من حق هذه المجتمعات التي استقبلتهم بكرم وإنسانية أن تطلب تعلم لغتها واحترام أسسها القانونية والقيمية؟
- يرجع الكاتب سبب العنف الأسري إلى الاستعمار الغربي ودعمه للديكتاتورية. هل هذا يعني أن مجتمعاتنا قبل القرن العشرين كانت تعيش بدون عنف أسري، خاصة ضد المرآة والطفل؟ أعتقد أن هذا تطرف في الخيال بلا مسوّغ، وهو إغراق في تفسيرات المؤامرة التي ترى الغرب شيطانًا مطلق القدرة، أتى إلى بلادنا ومجتمعاتنا وقلبها ودمرها بالتعاون مع الديكتاتوريات التي دعمها الغرب. نقاش هذا التفسير المؤامراتي ليس موضوعنا، لكن يمكن اختصار الموضوع بسؤال بديهي وبسيط: إذا كانت بلادنا قبل الاستعمار الغربي بهذه الطهرانية النسبية في الثقافة والعلم والمفاهيم الاجتماعية، فكيف كانت بهذا الضعف؛ بحيث استطاع هذا الغرب “الشرير” استعمارها وتدميرها؟
- يذكر السيد علواني نقطة غريبة جدًا، وهي أن أوروبا الغربية تستقبل هؤلاء اللاجئين؛ لتخلق طبقة اجتماعية تعيش في القاع الاجتماعي، فيقول: ” وبحاجة هذه المجتمعات إلى من يرضى بالخدمة في القاع”. طبعًا حصلت أخطاء تاريخية مع المهاجرين القدامى، وخاصة من شمال إفريقيا إلى أوروبا، أخطاء من الحكومات الغربية، وأخطاء –أيضًا- من المهاجرين أنفسهم، لكن أن يجمح بنا الخيال للادعاء أن هذه سياسة موجهة؛ لخلق طبقة فقيرة معدمة مهمشة؛ فهذا ما لا يمكن فهمه أو تسويغه. هل هذه الحكومات والمجتمعات على هذا المستوى من الشرانية والحماقة أن تخلق تجمعات بركانية من المهمشين والمتمردين في قلب ديارها؟ ومن ناحية ثانية، لو أن هذه الحكومات أرادت عمالًا، ألا يتقدم إليها ملايين من أوروبا الشرقية (الأقرب ثقافيًا)، ومن أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا وبشهادات وكفاءات عالية، فما حاجتهم لملايين أتوا عشوائيًا تكاد تصل نسبة الأمية بينهم إلى الثلث على الأقل، وكثير منهم مرهق نفسيًا وعاطفيًا وجسديًا من أهوال حروب وعنف قاسية؟
لا أنكر –طبعًا- وجود أفكار عامة في الشارع الغربي عن الإنسان العربي، تصوره أنه متزوج من أربعة، ويضرب أولاده، لكن هذه الفكرة العامة ليست نتيجة استعلاء ثقافي ولا إنساني، بل نتيجة حتمية لسوء التواصل بين الشعوب؛ إذ كان محكومًا دائمًا بالصراع السياسي، وبأحمال من التاريخ لم يجرِ تطهيرها جيدًا. وفي الوقت نفسه، هل العنف الأسري موجود لدينا، بوصفه ثقافة أم لا؟ في الواقع موجود مثلما قلنا آنفًا؛ لأن ثقافتنا متساهلة معه، وبنسب أعلى من الغرب، الفرق أن ثقافتنا تمنعنا من مواجهة ذاتنا ورؤية عيوبنا، وتبحث دائمًا عن شيطان ما خارجها يحمل هذه الأوزار، بينما ما رسخه عصر التنوير في الغرب، وأطلقه منهجًا في المجتمع الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية، كان القسوة في انتقاد الذات والبحث في الأخطاء.
ليس الهدف –طبعًا- القول بأن المجتمعات الأوروبية الغربية مثالية، كلا البتة؛ هذه المجتمعات مليئة بالمشكلات والأزمات، شأنها شأن المجتمعات البشرية الأخرى، وبعض مشكلاتها أشد حدة من مشكلات الآخرين، لكن بالموازنة النسبية، وضمن سياق المقال، تعد هذه المجتمعات متقدمة بمراحل عديدة في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، وخاصة المرآة والطفل.
والسؤال الأخير: بما أن هذا المقال باللغة العربية، فهل هذا ما يحتاجه اللاجئ العربي في أوروبا الغربية؟ أن يراها متآمرة متعالية عليه، وهو يعيش من خيراتها بكل ما تستلزمه الحياة الكريمة التي لن يجدها “أبدًا” في بلاده، وبين من يشاركونه ثقافته.
مراجع
- مقال “ثقافتنا وثقافتكم (في سياسات الاندماج الأوروبية)”، شبكة جيرون، 22 كانون الثاني / يناير، 2017
http://www.geroun.net/archives/73523
- مقال ” اللاجئون بأوروبا بين الحقيقة وخيال المؤامرة”، موقع بيت السلام السوري
المصدر