on
انكسار العرب.. سورية المثال الأكثر سوءًا
علاء كيلاني
مينا، مُدرّسة سورية في السادسة والعشرين، في حيرة من أمرها، بين ماضٍ مضى وانقضى، وحاضر أوروبي غير مألوف، ومستقبل ملتبس. تمتعت بحياتها في مدينة حمص، حين كانت تعمل في مؤسسة للأطفال المصابين بالتوحّد، وتواصل تحصيلها العلمي في الوقت نفسه. لم تكن تمارس أي نشاط سياسي. لكنها حرصت على التزام الحياد عندما اشتعلت الحرب. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2015، هربت من منزلها ومن بلادها.
تعيش مينا اليوم، في مخيم للاجئين في برلين. ومع أنها وجدت عملًا في إحدى المدارس التمهيدية المحلية، فإنها تقول: “ما يرهقني إلى درجة لا تصدّق أن عليّ أن أبدأ حياتي من جديد”. ويساورها القلق حول المعاناة النفسية التي يحملها أولئك الذين بقوا في سورية: “إنهم على قيد الحياة فحسب. يأكلون، ويشربون، وينامون”.
على غرار مينا، دخل ملايين السوريين رحلة الاقتلاع العميق، فالنظام الذي استخدم الدهاء خلال العقود الأربعة التي مضت، في سياق مساوماته السلطوية، الخدمات الأساسية مقابل الخضوع السياسي)، لم يتردد -على الإطلاق- في تطوير سلوك ـ الإكراه عبر القمع إلى القمع المتوحش حين فشل في التأقلم مع المطالب الشعب المتصاعدة للإصلاح والتغيير والتصدي للتظلمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وجَعَل من السلطة أداة قتل وتدمير، على الرغم مما تنطوي عليه معالجات كهذه من مخاطر كارثية، تدفع البلاد اليوم فاتورتها.
في 20 كانون الثاني/ يناير الحالي، ومن بيروت، أطلق مركز كارنيغي للشرق الأوسط تقريره “انكسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود اجتماعية”. ليبحث في جذور المشهد القاتم الذي يجتاح الشرق الأوسط. بدءًا من سورية وانتهاء بليبيا. فالسماء التي تعج بقاذفات القنابل، باتت من المشاهد المعتادة لكثيرين من العرب. لقد قضى مئات الألوف وشُرّد الملايين، واستشرى العنف، واختُرقت الحدود، وتفشت الفوضى والمعاناة، في مرحلة يعدّها التقرير هي الأكثر تدميرًا في الشرق الأوسط، منذ تأسيس نظام الدول العربية الحديثة غداة الحرب العالمية الأولى.
ومع وجود اختلافات شكلانية، بين تجربة وأخرى، بقيت خلفيات التحول متشابهة، وقد شخّصت تقارير التنمية الإنسانية العربية، بحسب “ريما خلف”، الأمين التنفيذي لـ “لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا” المعروفة بـ “الإسكوا” المشكلات التي قادت إلى هذا الحريق قبل اشتعاله بسنوات، حين كشفت وجود نواقص في الحرية، والمعرفة، وتمكين المرأة، أدت إلى تعثر مسيرة التنمية وتهميش أغلبية الناس. ومن ثَمّ؛ “إلى مزيج متفجر من الغضب والإحباط واليأس. وفي غياب القنوات السلمية لمعالجة المظالم، سوف ينقاد بعض العرب إلى العنف غير عابئين بما يترتب عليه من عواقب وخيمة”.
يُذكر أن تقارير التنمية الإنسانية التي صدرت عن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” على التوالي، بدءًا من العام 2002. قد دعت الأنظمة العربية إلى ضرورة تبني إصلاحات سياسية واقتصادية جدية، تمكّن من انتقال منظّم وسلمي إلى الديمقراطية. لكن الاستجابة جاءت في مبادرات مجتزأة وتجميلية. فظلت الحريات مخنوقة، واستمر انتهاك الحقوق، وقُتل كثيرون بسبب آرائهم أو انتماءاتهم، أو قبعوا في السجون إلى أجل غير مسمى، دون محاكمة عادلة.
ولسوء الحظ أنه منذ عام 2002 وحتى الآن، لم تنضم إلى قائمة الدول “الحرّة” وفق تقديرات منظمة “بيت الحرية” (Freedom House) غير دولة عربية واحدة هي تونس. وهناك دولتان أخريان، هما لبنان والمغرب، تُعدّ كل منهما “حرّة جزئيًا”. أما بقية البلدان فقد صُنّفت غير حرة.
“انهيار النظام العربي، كان نتيجة متوقعة، وقد تأكد في العام 2011″، كما يقول التقرير الذي يضيف: “ما يسمى عقودًا اجتماعية إنما كان من طرف واحد؛ لأن المواطنين في المنطقة رفضوا رفضًا صريحًا الأسس التي أقيمت عليها المساومات السلطوية، وإجراءات تحسين الصورة المجتزأة، بعد أن تكشفت أزمة الثقة بين الأنظمة وشعوبها”.
وعوضًا من صوغ عقد جديد، لجأت بعض الأنظمة، إلى دليل إرشادي مألوف لاحتواء مضاعفات ما حدث في تونس، إذ ردّت باستخدام مزيج من المعونات الاجتماعية والسياسات القمعية، مع درجات متفاوتة من الوحشية والحنكة. وكان من نتائج ذلك، أن بعض أكثر الأنظمة قمعًا في المنطقة، مثل العراق وليبيا وسورية واليمن، بدأت تتشرذم على أسس إثنية وإيديولوجية وطائفية وقبلية، بينما شهد بعضها الآخر قلاقل داخلية مهمة.
يُستشف من خلال ثلاثة مشاهد -إنساني، سياسي، جيو سياسي- تناولها التقرير أن سورية هي المثال الأسوأ. حين وجد المواطنون أنفسهم أمام نظام مستعد لتدمير مدنه، مقابل عدم التنازل لشعبه أو تخليه عن السلطة لصالح صناديق الاقتراع. وتحول البلد “العريق” إلى مكب لقذارات العالم، وساحة تصفية لسياسات إقليمية ودولية غير نظيفة في جوهرها؛ ما فتح الباب أمام تدفق قوى خارجية، زاد تدخلها من حجم الدمار. وقد ترافق العنف العشوائي مع تحركات سكانية واسعة النطاق، أفضت إلى تغييرات اجتماعية كبيرة. فالسكان الذين هربوا من آلة القتل الرسمية كانوا أمام خيارين، إما أن يلتحقوا بالمحاربين، أو أن يصبحوا لاجئين. ويشار إلى أن 86 بالمئة ممن هربوا من سورية إلى اليونان بين نيسان/ أبريل، وأيلول/ سبتمبر 2015، يحملون شهادات الدراسة الثانوية أو التعليم الجامعي، يضاف إلى ذلك، أن أكثر من 2.8 مليون طفل سوري لا يرتادون المدارس، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نتائج وخيمة على المدى الطويل.
إننا كثيرًا ما نتناسى أن رئاستَيْ حافظ الأسد وبشار الأسد، مجتمعتين، قد جسّدتا أطول مثال على السلالات الجمهورية في العالم. فقد استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970 وبدأ، تحت شعار القومية العربية، بناء دولة تعظّم المصالح الخاصة، سلطوية تتمحور حول نواة عشائرية طائفية، تعزّزها المحسوبية. فجعل ذلك من سورية أنموذجًا مثاليًا لصيغة أمكن لها أن تتكرر على المستوى العربي.
لقد أفضى عنف الدولة المنظم، إلى درجة التوحش، إلى انهيار فكرة وجود هوية وطنية سورية جامعة، كما أدى إلى تدمير النسيج الاجتماعي للبلاد، وتفتيت الجماعات المحلية، وولادة واقع جديد، يضم إقطاعيات فئوية، تتبنّى أطرًا ضيقة لتعريف الهوية، تدين بأفكارها إلى زمن ما قبل الدولة.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، بدأت حركة من المثقفين الراديكاليين برفض الأجواء السياسية المتهافتة التي كانت سائدة في المنطقة آنذاك. وفي عام 1968، نشر أحد أعضاء تلك الحركة، وهو الفيلسوف السوري صادق جلال العظم الذي توفّي في كانون الأول/ ديسمبر 2016 بمنفاه في برلين، كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة” الذي أُودع بسببه السجن. ومع أنه كان في ظاهره تحليلًا للهزيمة العربية المُخزية أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة، شكّل هذا الكتاب المرجعي في واقع الأمر نقدًا مرًّا للثقافة السياسية العربية. واستنكر العظم لجوء الزعماء العرب إلى اختلاق الأعذار والتنصّل من اللوم بدلًا من تحمّل المسؤولية عن الهزيمة العسكرية، وتهرّبوا بذلك من فرصة التجديد الثقافي.
وبعد نحو نصف قرن، استعرض العظم، حصيلة الفوران الذي شهدته المنطقة في السنوات الأخيرة. وتردّدت أصداء من حملته النقدية السابقة، عندما أعرب عن اعتقاده بأن الانتفاضات العربية قد ساعدتنا في فهم أبعاد الواقع الإقليمي كما هو بالفعل:” دول أن تهيمن عليها كيانات طائفية وإثنية، بدلًا من الكيانات الوطنية الشاملة، وأنظمة ديكتاتورية أفسحت المجال لاندلاع الحروب الأهلية، وانهيار الدولة، والإرهاب”. وإذا كانت هذه الانتفاضات قد حقّقت نجاحًا ما، فإنها ساعدت -على الأقل- في إلقاء الضوء على التحديات عميقة الغور التي تواجهها المجتمعات العربية في مسيرتها الطويلة نحو التمدُّن والمستقبل الأفضل.
المصدر