عبد الحميد محمد
يُنسّق سليم بركات في “سبايا سنجار”، أحزان اليزيديين الأكراد في هذا الجبل الأشبه بمدوّنة للفجيعة، عبر سيرته المرتبطة مع “جبل جودي” بنشأة الكون وفق الميثولوجيا اليزيديّة، مستجمعًا ومختبرًا قدرة خياله على اقتناص لمسةٍ، تُترجم هذا الحزن “الجبلي” والصراخ المنكوب لشعوب الحزن وكائناته السوريّة، بعدما قامرت الأخلاق بتاريخها. يعتريه الشكّ في قدرته على إشهار روح هذا الحزن، في قدرة اللون وحناجره، وفي قدرة الحروف على إبادة المعاني لتُكمل نصابها.
اللون قياس الألم، له منطقه وأقدار تنعشه؛ إذ كان للجنة لونٌ في خيال الله، قبل أن ينفخ في الطين، وحنين اللون هو الأصل، يمنح عمقًا بصريًّا للألم.
يتضرّع للون- بكلّ ثقل الحياة فيه- ليدلّه على ما يجعل الجبل حزينًا، ويجذبُ الصخر لينطق، فيُقرّ بحزنه، إذ خذلته رسوماته العنيفة/ قصائده عن بلده، فيذهب إلى نفسه ليراجعها وينقّحها:
” ربما ذلك العنف المتمادي في رسومي أساء إليها. بعتُها، لكن في شكٍّ من جودتها.“
سورية التي خذلتها الأمم المقتدرة، وأهلكها المبشّرون بالجحيم باسم الربّ، لتتساقط قلوبه الكثيرة، بفعل النُدوب في أعماقه، وبوّابات الجحيم الذهبية التي شيّدتها في بلده معاول الوليّ الإيرانيّ المبشّر بالخراب، ومعاول أوباما المذهل في اللاأخلاق، مانح اليأس للتاريخ ولأطفال درعا، وصاحب الأفكار الوقحة عن الجوع في بلدة مضايا، وكدمات اليأس الإنسانيّ فيها، ومعاول قيصر روسيا الأخير، ومعاول أردوغان العثمانيّ المتعجرف الذي فتح حدود سورية لوحوش الجهاد؛ بينما تكفّل سارق بلده وطاغيتها بتسليم البلد لمن يشاء من “الغُزااااااة”، مقايضة مع بقائه حاكمًا لها، بعدما ابتكر القاعدةّ الفذّة، رفقة براميل الهول:
” أقصر الطرق إلى حُكمٍ بلا نهاية هو تدمير البلد.”
زادته أسىً “معاول كُفْر الشريك بشريكه”، كفر الكرديّ بالعربيّ، كفر الكلّ بالكلّ، وعويل الأمهات الثكالى بأبنائهنّ، وغرق اللاجئين اللائذين بآلهة البحر، ليفقد كلّ أعضائه بذورًا في أرخبيلات المفقود. هي سورية وجوارها، يؤرّخ لتحولّاتها وصيرورتها وسيرورتها، بعدما خفّفت الثورة السورية من حدّية اليقين الكرديّ، ليكتشف أنها ثمرة عسف وتلفيق في إنشاء الدول، مشكوكٌ باستقلالها بين أضراس الخوف، لا تجانس في أقدار شعبها وأمانيه، إلّا كذبًا ووهمًا، وإذ تكفّل حلف سنّي بـ “تمزيق” الثورة السورية، يُعلن الشرق حياءه من الحرية، ليبقى السوريّ وحيدًا، يطحن الآخرون قدره ولحمه:
أثقل عليه القدر: كرديٌّ سوريٌّ، شرقيٌّ، يكابد آلام بلده، حالمٌ بالعودة، وإذ حلمت سبايا سنجار الخمسة بسفينة يقودها /طاووس ملك/ ليعود بهن إلى سنجار، يرسم سفينة كسفينة البولوني جيسلاف بيكسينسكي، المعروف بلوحاته السريالية المربكة وكوابيسها المدهشة، وتمجيد الموت لأنه يموت أكثر مما يحيا.
سفينة تعلوها جمجمةٌ مرعبة، في أسفلها مركبٌ تائه. تسأله “يادا”:
– ما هذا؟– سأعود إلى سورية في هذه السفينة.– وماذا عن المركب الصغير أسفل السفينة؟– إنه مركب نجاة إن غرقت السفينة.
تسأله “آنيشا”:
– أين نحن؟– في السفينة القادمة بعد هذه.
لا تولد الرواية سوى من رحم قصيدة، يقول توماس مان Thomas Mann، ولكليهما لسانٌ واحدٌ في عرف سليم بركات، فيُلحّ ليُوغل فيما قاله، في ديوانه القصيدة “سورية“:
“أيها البلدُ. الْغريبُ شريكٌ فيكَ. والغزاةُ أشراكٌ. بقايا قصر، وغزاااااااةٌ حرسٌ. هي ذي تقوى المدية فوق النَّحرِ، وتقوى المذبحة، وهدي الحريق.”
ليس صحيحًا أنّه تخلّى عن ولائه للغته، بعدما سلّم كلّ يقينه للكلمات، حتّى لم يعد يتعرّف إلى نفسه إلا لغة وقدرًا لغويًّا، لكنّها عفويّة الاستجابة لأحداث “بلده”، تُشعرك بخطابة سياسية، توحي بسهولة مفرداته، وتوصيفات انفعالية، تتكرّر في سياق التأريخ للحدث، قبل أن يتدارك قوله عن الثورتين: الفرنسية والسورية كثورتين غدرتا بثوّارهما بفائض العنف:
“النهاية الغادرة للثورة الفرنسية لم تعتذر للثائرين عن وقاحتها”.
زاد في طول محاوراته الهامشية القصيرة والإشكالية عادة، بعدما كانت ثرثرة لا يحتاجها في تدبيره للسياق، بقدر حاجته لأشخاص واقعيين، أكثر ثراءً من أشخاص على الورق، يبسط لهم وسائد القدر، ليغدر بهم في إقطاعيّات المعنى.
الحوارات الطويلة ثرثراتٌ بطعم نبيذ تحتسيه “ناتالي” طليقة سارات، أو طلقات عشر إضافيّة أُطلقت على الشيشاني من زوجة أخيه، بعد طلقة أولى، مؤلمة قاتلة. الحوارات عمادٌ رئيس لبنيان الرواية، لدرجة الشعور بالتكرار خارجها. هل تغدو الثرثرة استراتيجية جديدة له؟
ينال الهلع منه، إذ يهمّ بالكتابة، ليؤكّد الأشياء، في اشتغال استقصائيّ على المصائر ونشأتها، وقد ملّ من استعادة المفردة /القدر/. تلك مهمّة مطوّبةٌ باسمه، بوصفه شرطيّ مرورٍ للمصائر، صفّارته الأقدار، ينتظرها، حتى ينضج فيها أرق الله، بينما قدر السبايا “شاهيكا” و”آنيشا” و”نيناس” و”كيديما” و”يادا” أن يبقين عالقات في مخيّلة “سارات”، ليُخلّد محنتهنّ، في لوحته السديم “سبايا سنجار”، فيحرّرهنّ ويمنع محنة يزيديّات أخريات، في مطهر الوحشيّات الكبرى.
يُلاحق “سارات” صباح جسده، معاينًا وشومه، وحلم ليلته الماضية، استعرض فيها -كما كلّ ليلة- لوحة من أساطين قنص اللون، كلوحة الغلاف للسويسري هنري فوسيلي Henry Fuseli، الموسومة باسم “الكابوس- “The Nightmare، الحلم الأسوأ في تاريخ الفنّ، شكّلت مقاربته حرجًا لفرويد، الذي أربك البشرية بتأكيده على غرائز الإنسان التي لا تتوافق ورسالات الأنبياء والأديان. ولوحة فوسيلي كابوسٌ واعتداءٌ ليليّ، سعت لإظهار وحشيّة الاغتصاب وحقيقته، بوصفه جوهرًا للسبي والغزو على عواهن الخير دمًا بعد دم.
يُحضّر في مرسمه المطلّ على بحيرة “أودن-لالش كما تريدها شاهيكا”، الورق نافرًا، القماش خشنًا، ثمّ يُحيله أملس رائقًا، كراعٍ، تتحامى إليه المعاني:
– دلّني على شيء، أيّها البياض!
يشبك حالته الشعورية الداخلية، حتى يغدو أقرب إلى آلة إنسانية تشتغل على نفسها، مستجمعًا أحاسيسه، مستدعيا علومه، وقوة فرشاته، ليخبره البياض:
“ارسمْ جبلَ سنجار كما هو، يا سارات. سنجار جبل حزين.“
سبايا، تمنّين لو لم تلدهنّ أمّهاتهن، في قريتنا الكونية، يتمرّن فيها الأطفال، على فنون الذبح بالسكاكين، للفوز بلقب “الطفل السفّاح”. يُوعدون بدل الحوريّات بأنهار العسل والحلوى. يردّدون خلف الدعاة، ألفباء القتل: “نقتل الكفرة”، وإذ لا يحبّذ الدعاة تهذيبًا في القتل، يجاريهم أطفال الخلافة: “بل نقطع رؤوسهم بسكاكيننا” اليزيديّون كفرة، واليزيديات كافراتٌ، يُذبحن، يسبين في عالم انحدر إلى أكثر صوره انحدارًا. الحزن وحده، يربطهم بهذا العالم، ليسبغ متعته، بمزيد من النبل.
التجريد سياقٌ يومي للمعنى وبلاغة حيادٍ ماكر، وفاجعة سنجار، منعطفٌ نبيل، لا تحتاج تأويلًا وتلفيقا: “أحدث التناثر فضاءً يُصطلحُ على تعريفه بالتجريد، وإن أحدث التناثرُ فضاءً منسجمًا، منتظمًا، يُصطلح على تعريفه بالتجسيم المماثِل، ماذا يعني انثناء الفضاء؟” وانثناء الفضاء، في نسبية آينشتاين Albert Einstein، مسار خط مستقيم باتجاه واحد، فعودة لنقطة البداية، كالزمن الأسطوريّ. انحناءٌ تغدو فيه الأرض غير مرئيّة، فتختلّ المجرّة كلها. أهي سنجار أم سورية وثورتها المستحيلة؟
يُؤوّل الزمن ليستوعب روايته التي لا تشارف اكتمالها إلا في ألف عام، فيختزلها، مستبقًا لغته، إذ يجد الوقت مهينًا والالتفافُ عليه اختزالٌ يهينه أكثر، كالمنتحر يُهين الموت.
“الألم يستوجب قساوة حُكْمٍ في ترتيب النهايات.. يلزمنا الكثير، يا شاهيكا، لنرتِّقَ الكونَ الممزَّق في تصميمه بخيوط من جلودنا المسلوخة.“
والنزعة التدميرية مُضمرةٌ بنزعة خلق خضراء في معارج الدهشة، يبزغ فيها البهاء والأنقاض متجانسين، كهرطقة يصحّ عليها ما وصفها أندريه جيد André Gide، بطريقة التفكّك الخلّاق الغامض.
تحوّلات سليم بركات تحوّلات ألم، أشبه بنار متّقدة، تجبله كائنًا جديدًا مختلفًا، يرنو لإعادة تشكيل الكون إلى اللون الأمّ. هل نستدعي إلياس كانيتي Elias Canetti الذي وجد في الكاتب الحقيقي، حامي تحوّلات ليس من واجباته منع الحرب؟ الميثولوجيا الدينية فيها من القدسيّ ما يجعلها “جزءًا طبيعيًّا من آلية الخداع في زمن الحرب” حسبما يؤكّده مؤلّفا “معنى المعنى” البريطانيّان أوغدن وتشاردز، فتزدهر الغرائز، لتُطابق الأشياء نظائرَ حقيقيةً للأسماء ذات السلطة اللفظية الملائمة لكلّ زمان وكلّ مكان.
وما بين مرض اللغة وهفواتها لماكس مولر Max Müller، والاستعارات الجذرية لأرنست كاسيررErnest Cassirer، يتماثل منبع الاسطورة والدين واللغة، فتنعدم المسافة بين الاسم والشيء، لتغدو داعش دولة إسلامية، كزمن جذري استعاريّ ذي خلفية لغوية حركية دائمة، وكيانًا لفظيّا مقدّسًا.
“لا حظوظ إلّا للدينيّ في إدارة الحياة”، وفي الاستعراض القويّ في الشارع لوعد الدينيّ وصعود الغيبيّ بوصفه بديلًا ساحقًا ساحرًا، يغدو الموت مرشدًا إلى النعمة، بوعود العطّارين عن اللذائذ السماوية، لينال الأرق من سليم بركات حتّى يكاد يفقد الثقة بتدبير إنسانيّ للمصائر “كلبٌ سمكة” يقتحم مرسم سارات، ليمنحه رفاهية من الفوضى، ويثقب ذاكرته.
والمقاربة الواقعية للحرب ساذجة، تحدّ من حرّيته في إدارة اللعبة، فيكتفي برموز، لتشريد كلّ معلوم وكلّ ما لم يحدث، لعلّه يأتي بإضافة صغيرة إلى ما لا يعرفه العالم، في لحظة تجلّ ضد الفوضى، تُعيد للواقع بعض سحره المنتَهك.
التشاكل الكامن في الأساطير، والمقدّس الدينيّ المؤسس لخلود المعنى ببلاغة القتل فيه، يناسب-بتعقيده- ثقافة سليم بركات العشوائية. يعرف كلّ شيء بضراوة، لأنّه بذرة كلّ شيء. يقتدي بإيتالو كالفينو، ليُحيل عمله لحقلٍ معرفيّ. يخبرنا بكلّ شيء، ثم لا يخبرنا بشيء، حيث كلّ شيء قليل كلّ شيء، في منتجه الأبعد عن طابع الحكاية. يصرّح بحاجته لكلمات أكثر، ليس لتوصيف فردوس مفقود، بل لتوصيف وجودٍ مفقود.
و “أسواق سبايا الخلافة”، من سنجار إلى الرقة، وعدٌ قدسيٌّ فتك بالوجود حين “زُهق الباطل”، ليُكرم جنود الحوريّات، بالسبايا المشاع، صُنّفن وفق حروف الهجاء في الملذّات وأرقام اللهفة:
“بيعت شاهيكا بأربعمائة دولار، وقد غَدَت صِرْفة للمشاع الإيماني، لوليِّ جسدها ومالكه: أنتِ سَعْدَة. ستسعدين بي أعدتُك من حظيرة الشيطان مسلمةً، قال لها مالكها الملقب “أبي دِحْيَة”.“
يضع سليم بركات خططًا للقيامة، في مطبخه، ليهجو البشريّة، والحيرة تنال من سارات، ليُنجز اللوحة المشرعة للمصائر، إذ تختلط عليه المعاني، النبيل منها والشنيع، يُلحّ عليه كلّ من استُجلبوا للمكان، الأشبه بجيب مثقوب، يستعجلون الرسم بأقلام الخمائر، ليتغلغوا إلى داخل البياض، بأمنيات خذلتها الحياة، وقد يخلص لها الموت، فتحظى شاهيكا بجارها المتزوّج، بينما تغدو بشرة سعدون السوداء لؤلؤة بيضاء بفرشاة رسّام كرديّ.
منح سليم بركات ثقته لعدل الدموي في “الجمهرات”، نكاية ببلاغة القتل الدينية، تقتسم الحياة بين احتقار لها وذبح، وعلى سارات أن يؤكّد ثقته تلك. والجمهرات، أقرب للعلامات، صدر بخطّ يده، جامعًا بين خياليّ اللغة والرسم، ليمنح المعنى إيقاعًا وبعدًا هندسيًا. “امتداد الشعر في الزمان، بينما امتداد الرسم في المكان”، يقول ليسنج. Lessing
كان بيانه “الكانيباليّ” في الجمهرات:
“لن يصل الكائنُ إلى الكائنِ إلّا نهبًا.. كأنّي سأفتحُ للخاتمةِ مداخلَ العذوبةِ، وللمكانِ متاهة المكان.ألا يا نجدة لن تصل، ها قد وصلت النوافير بالأبواق.“المصدر