الخطة الروسية بين أستانة والباب


العربي الجديد

بين انتقاد النظام السوري لخرقه الهدنة واتهام إيران، قبل ذلك، بتعقيد جهود التسوية في أستانة، بدأت تتضح، ليس فقط معالم الاختلاف في زاوية الرؤية والمصالح بين روسيا وحليفيها الإيراني والسوري، فهذا أمر لم يعد يحتاج إلى تفصيل، خصوصًا مع تنامي آمال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بانفراجةٍ في العلاقة مع واشنطن، بعد وصول ترامب إلى السلطة، بل بدأت أيضًا تتضح معالم السياسة الروسية في المنطقة العربية للمرحلة المقبلة، فروسيا التي تلقفت دعوة النظام وإيران للتدخل عسكريًا في سورية لوقف تقدم المعارضة، بعد سقوط إدلب وجسر الشغور ربيع العام 2015، ولمنع تركيا من إنشاء منطقة “خالية من تنظيم الدولة الإسلامية”، وافقت عليها إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بمجرد الإعلان عن الاتفاق النووي مع إيران في يوليو/ تموز 2015، تبدو اليوم كمن ركب موجة الجموح الإيراني، واستغلها، فحدّد مداها، وتحكّم باتجاهاتها وحقّق مبتغاه من خلالها.

ومنذ الزيارة التي قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى موسكو في أغسطس/ آب الماضي، وتوصل فيها إلى تفاهماتٍ أخذت تتضح أبعادها لاحقًا في عملية درع الفرات واتفاق حلب، وصولًا إلى أستانة، بدأت روسيا تحاول أخذ مسافةٍ عن حليفيها السوري والإيراني، في محاولةٍ، على ما يبدو، لإعادة التموضع في مكانٍ وسط في الصراع الذي تراه يدور داخل الإسلام بين سنة المنطقة وشيعتها.

خلال الفترة الماضية، بدا واضحًا أن روسيا دخلت في تحالف استراتيجي مع إيران، لتحقيق هدفين رئيسين: الأول، منع تركيا من الاستثمار في موجة الربيع العربي، وتجييرها لخدمة مصالحها، والتحوّل من خلالها إلى قوةٍ إقليمية كبرى، وزعيم “للعالم السني”، يساعدها في ذلك النموذج السياسي والاقتصادي الناجح الذي قدمه حزب العدالة والتنمية. وقد تعاظمت هذه المخاوف في موسكو، بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في غير عاصمة عربية، أهمها القاهرة. الهدف الثاني، منع ما اعتبرته روسيا محاولة أميركية لإيصال موجات الربيع العربي إلى شواطئها، وتزامنت مع الانتخابات التي أعادت بوتين إلى كرسي الرئاسة عام 2012.

غدت هذه المخاوف اليوم بالنسبة إلى موسكو جزءًا من الماضي، فالربيع العربي أجهض في محطاته الأولى. وعادت السياسة التركية تمشي على الأرض، بعد أن حلقت عاليًا في فضاء الأحلام، وأوباما المتشدد مع روسيا غادر، وحل مكانه دونالد ترامب الأكثر تفهمًا. إنها مرحلةٌ مختلفةٌ كليًا تحاول روسيا فيها تعزيز مكاسبها التي حققتها في المنطقة من البوابة السورية، حيث دعمت الهجوم الإيراني لسحق حلم الربيع العربي والطموح التركي.

تسعى موسكو اليوم إلى الخروج من الشرنقة السورية التي شوّهت صورتها، وأكسبتها عداءً في عموم العالم العربي، وترنو للوصول بنفوذها إلى مصر وليبيا والجزائر، وربما إلى الخليج أيضًا، حيث تطمح لقيادة “كونسورتيوم” نفطي وغازي عالمي، يمثل أملها الوحيد في العودة قوة كبرى. لا يمكن أن يتحقق هذا الأمر إذا ظلت روسيا تتصرف وكأنها سلاح جو للمليشيات الإيرانية التي تفتك بالمجتمعات العربية، كما يفتك السرطان بالجسد، لكن هذا لا يعني أيضًا أنها تريد خسارة إيران، أو الدخول في مواجهة معها. على الإطلاق، الوضع المثالي بالنسبة إلى روسيا أن تغدو حكمًا بين إيران وحلفائها من جهة (شيعة المنطقة) وتركيا والعرب من جهة أخرى (سنة المنطقة). واضحٌ أن هذا ما يسعى بوتين إليه من خلال التقارب مع تركيا، وأخذ مسافةٍ من إيران. لكن، هناك هدف آخر لا يقل أهميةً يضعه الرئيس الروسي نصب عينيه، هو الشروع في تفكيك حلف الأطلسي (الناتو) عبر محاولة إخراج تركيا منه، يساعده في ذلك موقف الرئيس الأميركي الجديد الذي يرى أن الحلف فقد الغرض من استمراره.

هذا تحديدًا ما يسعى بوتين إليه من خلال الدعم الجوي الذي يقدمه للقوات التركية وفصائل المعارضة السورية، في عملية درع الفرات، في مواجهاتها مع تنظيم الدولة الإسلامية في الباب، علمًا أن هذه المرة الأولى التي يتم فيها تنسيق ميداني مشترك بين روسيا ودولةٍ عضو في حلف الأطلسي. إن تحول بوتين عن العمل سلاح جو للإيرانيين وحلفائهم الى العمل سلاح جو للأتراك وحلفائهم يعد تطورًا كبيرا، يفهم الإيرانيون مغزاه، كما الاتراك والأميركيون، وهو أمر ينبغي الانتباه إليه والاستثمار فيه من المعارضة السورية، كيف يكون هذا؟

(*) كاتب سوري




المصدر