سورية.. لعنة التاريخ والجغرافيا


منير شحود

تعدُّ سوريا الطبيعية (سوريا الكبرى أو سوريا التاريخية) نقطة التقاء قارات العالم القديم الثلاث، وكانت، عبر تاريخها، معبرًا للهجرات البشرية والحملات العسكرية بين آسيا الصغرى وبلاد فارس، من جهة، ومصر من جهة ثانية، سواء على الطريق الساحلي لبلاد الشام، أو عبر الطريق الداخلي الذي يمر بمدنٍ موغلة في القدم، كحلب ودمشق والقدس، فضلًا عن هجرات عرب الصحراء واليمن الذين حملوا إليها أشعارهم ولغتهم.

لم تكن سوريا الطبيعية هذه مجرّد طريقٍ للعبور، فقد امتزجت فيها قبائل وشعوب كثيرة، وتقاسمت السيطرة عليها إمبراطوريات العالم القديم المختلفة، آخرها الإمبراطورية العثمانية. يظهر امتزاج الأعراق البشرية بوضوح في كل مدينة وقرية سورية، وحتى ضمن الأسرة الواحدة، حيث تتبدى البنى الجسدية والسحنات وألوان العيون والجلد لمختلف الأعراق، ما جعل من هذه البلاد مختبرًا وراثيًا، لم تلبث أن أكّدته الدراسات الجينية الحديثة. إن التنوع البيئي، مضافًا إليه التنوع العرقي والثقافي، أثرى الحياة في هذه البقعة من العالم، لكنه جعلها، أيضًا، هدفًا للطامعين، فكان لا بد أن تدفع ثمن فرادتها التاريخية والطبيعية.

ليس بوسع البلدان الحالية، المنبثقة عن سوريا الطبيعية، الخروج من وقائع التاريخ والجغرافيا، فهذا قدرها. وحين رسم المستعمرون حدود هذه البلدان على مقاسات نفوذهم وقوتهم في اتفاقية سايكس – بيكو، ونظرًا لأنّ هذه الحدود لم تكن مسوّغة بعوائق جغرافية ووقائع موضوعية، تحوَّل معظم الجهد السياسي المبذول في الدول الناشئة إلى إثبات الوجود الجديد بوصفه حقيقة ثابتة.  لكن، من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، لا يمكن عدّ مدينة دير الزور أقرب إلى سورية منها إلى العراق، أو أن الموصل أقرب إلى بغداد من شقيقتها حلب، أو أن بعلبك اللبنانية أقرب إلى بيروت من مدينتي النبك ويبرود السوريتين، أو أنّ مدينة الرمثا الأردنية أقرب إلى عمّان من مدينة درعا السورية… إلخ.

هكذا، بنتيجة هذا التقسيم المصطنع، حاولت السلطات الحاكمة في دول المشرق العربي التعويض عن قلة توافر المقوِّمات الوطنية من خلال المغالاة في الحديث عما يميّز كياناتها، بخاصة في لبنان والأردن، فيما كان التعويض في سورية والعراق باعتماد القومية العربية رداءً فضفاضًا يزيد من حجم كلٍّ منهما.

كما لم تتوقف التهديدات والاعتداءات ضدّ هذه الدول الضعيفة من جاراتها التي ما انفكّت تقضم في جغرافيتها، وكأنها تعدّها مجرّد امتداداتٍ لنفوذها. لم تفعل ذلك تركيا وإيران فحسب، بل والكيان المصطنع الجديد والقوي، إسرائيل، أيضًا. لذا؛ نلاحظ انكماش خرائط بلدان المشرق العربي منذ نشأتها في نهاية الحرب العالمية الأولى؛ فقد خسر العراق منطقة الأهواز ودخلت حكومته المركزية في صراع مرير مع الأكراد في الشمال، وخسرت سورية لواء الاسكندرون عام 1939 والجولان عام 1967، فيما خسر الأردن نفوذه على الضفة الغربية، الذي كرّسه صدور القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية عام 1947، ومن ثم؛ غُيِّبت جغرافيا فلسطين بكاملها. أما لبنان فيبدو شبه مشلول، سياسيًا، من جرّاء تضارب التدخلات الإقليمية على أرضه، أخطرها التدخل الإيراني، المتمثِّل بدويلة “حزب الله” داخل الدولة اللبنانية.

تجاوزت سورية الحالية، منذ استقلالها عام 1946، عدة انقلابات عسكرية ومآزق سياسية، منها حلف بغداد عام 1955، وذلك في غمرة الصراع الإقليمي والدولي الذي استهدفها في تلك الفترة. ثم تحقّق ضربٌ من الاستقرار السياسي الموقت بعد عام 1970، من خلال سياسة ميكيافلية تعتمد مصلحة بقاء النظام ومحاولة تأبيده، فيما أُهملت العقيدة العروبية دون أن تلغى، فبقيت رايات حزب البعث مرفوعةً لتبهت وتتمزق بمرور الأيام.

تمثلت طريقة الحكم هذه باستخدام موارد الدولة ومكونات المجتمع لتصنيع استقرار موقت بجميع الوسائل، ولأطول فترة ممكنة، بهدف تثبيت أركان السلطة ولجم آليات التغيير المحتملة. في هذه الأثناء، ظهرت سورية مثل لوحة سريالية انصهر فيها القائد والحزب والدولة والسلطة والمجتمع والأديان في بوتقة واحدة، فبدت ككرة زجاجية ملونة، لا بد أن تتهشّم وتنكسر يومًا ما من كثرة العبث بها.

في هذه المرحلة أيضًا، بدا وكأنّ سورية تحاول “الوثب” خارج حدودها، تعويضًا –ربما- عن تآكل الخريطة الجغرافية، التي كانت قد فقدت لواء الاسكندرون وهضبة الجولان، كما أسلفنا. حدث ذلك عندما اجتاحت القوات السورية الحدود الأردنية لنصرة الفلسطينيين، بُعيد أيلول الأسود عام 1970، أو عند دخول لبنان عام 1976، بهدف معلن هو وقف الحرب الأهلية، أو عند مشاركة قوات سورية في حرب الخليج الأولى (1991)، بقيادة أميركية، بعد اجتياح القوات العراقية للكويت عام 1990.

لكن، بانسحاب القوات السورية من لبنان عام 1975، بعد اغتيال الحريري، عادت سورية للانكماش مجددًا، وسرعان ما جرى  التعويض عن هذا التراجع من خلال إعادة تنشيط التحالفات الإقليمية، كما في التوجُّه نحو تركيا، اقتصاديًا وسياسيًا، منذ عام 2007، وتعزيز التحالف الاستراتيجي مع إيران و”حزب الله” اللبناني، مع بقاء إسرائيل محيَّدةً من خلال تثبيت الوضع في جبهة الجولان. نشير هنا إلى أنّ التعبير المكثف عن السلطة وتحالفاتها كان يتجلّى، ومازال، في الصور المنشورة في الشوارع وعلى الزجاج الخلفي للسيارات.

منذ عام 2011، بخاصة بعد أن اتخذت الثورة شكل صراع مسلح عام 2012، عاد الخارج إلى الداخل السوري بقوة، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، ذلك؛ بسبب حاجة أطراف الصراع الداخلي للدعم في حربها الوجودية بعضها ضد بعض. لم تُستثنى من ذلك حتى إسرائيل، العدو التاريخي لجميع السوريين، التي -إلى جانب استهدافها لبقايا القوة العسكرية السورية التي قد تمثل تهديدًا لها- عالجت كثيرًا من جرحى المعارضة، واستقبلت بعض رموزها أيضًا.

الآن، وبعد محاولتين دوليتين فاشلتين للتوصل إلى حلٍّ سياسي في مؤتمري جنيف 1 وجنيف 2، ها هي أهم الأطراف الدولية الفاعلة في سورية، روسيا وتركيا وإيران، تحاول مرة أخرى في آستانا عاصمة كازاخستان، تمهيدًا لمتابعة المحادثات السياسية في جنيف. ومع أنّ الحل النهائي ما يزال بحاجة إلى مستوى أعلى من التنسيق بين هذه الدول وغيرها، فضلًا عن ضرورة استنهاض قوى سياسية من خارج أطراف الحرب لتعبّر عن حقيقة سورية ومصالح شعبها، فإنّ البيان الختامي للمؤتمر يلحظ تكوين آليات وضمانات لوقف إطلاق النار، وهذا ليس في مصلحة القوى المستفيدة من استمرار الحرب.

ربما تكون فرص نجاة سورية ضئيلة على المدى البعيد، ما لم يتم تحصين البنية الداخلية بأنموذج جديد للحكم، يضع المصلحة الوطنية على رأس قائمة أولوياته، ويعتمد سياسة شبه محايدة، ووسائل سياسية لتحقيق هذه المصلحة، ذلك من أجل النأي بالنفس، قدر الإمكان، عن التجاذب الإقليمي والدولي. وحتى يتحقق ذلك، ستتواصل معاناة السوريين في جميع الصُّعد.




المصدر