عن ادعاءات الفصائل بالجهاد والمحاكم الشرعية والبيعات!


ماجد كيالي

حاولت الفصائل الإسلامية المسلّحة والمتطرّفة أخذ الثورة والمجتمع السوريين إلى مصطلحاتها ومفهوماتها وتصوراتها الخاصّة، الدينية والطائفية، مستغلّة في ذلك عنف النظام وطائفيّته، وتسامح المجتمع الدولي مع أعمال البطش والتدمير التي انتهجها ضد شعبه وعمران بلده، وضعف المعارضة السياسية، ولا سيما بعد إخراج الشعب أو أغلبيته من معادلات الصراع مع النظام، نتيجة حصره بالأعمال القتالية، وتحوّل ملايين السوريين إلى لاجئين في الداخل والخارج.

بدت هذه الفصائل كأنها آتية من زمن متخيّل مضى وانقضى، مثل “أهل الكهف”، وقد تجلّى ذلك بداية في تسمية “أيام الجمع”، وفي تسمية نفسها بأسماء تنتمي إلى زمن الإسلام الأول، ثم في إطلاق مصطلح الغزوات على المعارك العسكرية التي خاضتها ضد النظام. كما تجلى ذلك حيّز الممارسة في تشكيل ما بات يعرف بالمحاكم “الشرعية”، وبإصدار الفتاوى. وقد تفاقم ذلك مع تأسيس العلاقات بين السوريين والفصائل، وبين الفصائل ببعضها، وفق نظام “البيعة”، مع اختزال السوريين، على تنوعهم وتعدديتهم، بما في ذلك مجتمع “السنة”، إن صح التعبير، وفقًا لهذا النظام، أي: نظام ما يسمى “أهل الحل والعقد” الذي لا يمت بصلة إلى الدين ولا للدنيا، بقدر ما يمت إلى علاقات السلطة، هذا فضلًا عن اختزالها الصراع ضد النظام بمصطلح الجهاد، على مافي هذا المصطلح من التباس، وخروج عن منطق الثورة، والصراع السياسي، إلى منطق الصراع الديني والطائفي والأيديولوجي.

لم تكتف معظم هذه الفصائل، عبر كل ذلك، بزعم الدعوة إلى العيش في زمن سابق، وتخيّل نفسها، بتصوراتها وأشخاصها، كمن يتطابق مع ما كل ما يرمز إليه “فجر الإسلام”، قبل أكثر من 15 قرنًا، بل إنها ادّعت، أيضًا، أنها تمثّل صحيح الدين، واحتكار تمثيل الإسلام، والوصاية على المسلمين. ومعلوم أن تلك الفصائل ذهبت أبعد من ذلك بادعائها أن هذه ثورة أهل “السنّة”، على ما في ذلك من انجرار إلى خطاب النظام، ما أضر بالثورة، وأثار المخاوف منها، حتى في أوساط ما يعدّ الحاضنة الطبيعية للثورة، أو جمهور “السنّة” الذي أضرته هذه الفصائل بنمط سيطرتها، في ما عُدّ مناطق “محررة”، أكثر مما أضرت غيره، كما أضرت بإجماعات الشعب السوري، وأثارت قلق معظم مكوناته من المستقبل الذي تعِد به فصائل من هذا النوع.

في المحصلة لم تخفق هذه الفصائل في نمط خطاباتها المفوّتة، تاريخيًا وواقعيًا، فحسب، وإنما أخفقت في ما عدّته ميّزتها الخاصة، أي إيلائها “الجهاد” الأولوية على كل ما سواه، إذ تعاملت مع الصراع العسكري بدون أي اهتمام بحسابات الجدوى السياسية، أو حساب الكلفة والمردود، من الزاويتين العسكرية والسياسية، فضلًا عن تعاملها مع العمليات العسكرية بطريقة “قدرية”. فعند فصائل كهذه كل شيء يعود إلى الإرادة الإلهية؛ ما يعني رفع المسؤولية عنها، أو عن قياداتها، المسؤولة عن الانهيارات العسكرية، وضمنها الانسحابات الكيفية والمزاجية، والمنازعات بين الفصائل، واحتراباتها بين بعضها بعضًا، التي كلفت السوريين كثيرًا، وتسببت في نجاح النظام في تقويض صدقية الفصائل سياسيًا وعسكريًا، والانتصار عليها، في كثير من المواقع، وهو ما جرى في حلب أخيرًا.

فوق ذلك؛ فإن معظم هذه الفصائل لم تنجح في إدارتها للمناطق “المحررة”، إذ بدا كثير من هذه المناطق يخضع لسلطة استبدادية أخرى، مع إقطاعات حربية وما يسمى “محاكم شرعية”، إضافة إلى تحولها إلى حقل رماية للنظام، للبراميل المتفجرة والقذائف الصاروخية، كما تحولها إلى مناطق محاصرة تفتقد الحد الأدنى من الخدمات والمواد التموينية والطبية.

المشكلة في كل ذلك أن التيار الإسلامي المدني، المعتدل والمنفتح والمتنور، لم يأخذ موقفًا واضحًا، أو حاسمًا، من تلك الفصائل، لا على المستوى العملي ولا على المستوى النظري، ما يمكن تفسيره بضعف هذا التيار، أو بتردده، أو مراهنة من بعض الاتجاهات فيه على الاستثمار في هذه الفصائل (من “أخوة المنهج”)، وهي مراهنة اتضح أنها أضرت أيضًا بهذا التيار، بصدقيته وشرعيته، مثلما أضرت بالثورة والمجتمع السوريين.

طبعًا تبدو المسألة بالغة الخطورة ليست مع تنظيم مثل “داعش”، يدعي إعادة الخلافة، بطريقة وحشية وفجة، وهو الذي ظهر على الضد من الثورة السورية، جملة وتفصيلًا، وإنما تشمل “جبهة النصرة”، أو “جبهة فتح الشام”، وهي توأم “داعش”، وتعد نفسها جزءًا من تنظيم “القاعدة”، ولا تعترف بالثورة السورية، لا بتشكيلاتها، ولا بمقاصدها، فضلًا عن أنها لعبت دورًا كبيرًا في إضعاف “الجيش الحر”، وإزاحته من المشهد، وفي أخذ الثورة السورية إلى أقصى الصراع العسكري من دون أي إمكانات، كما أنها مسؤولة عن صبغ معظم المناطق المحررة بطابعها، مع محاكم شرعية، وفرض “الحدود”، ومحاولتها تكريس فهمها للإسلام على مجتمع السوريين بواسطة القوة والهيمنة.

في هذا الإطار طلعت علينا “جبهة فتح الشام” هذه ببيان تهدد فصيلًا أخر هو جند الأقصى بالحرب، لأنه ماطل في تنفيذ البيعة لأميرها، وتهدد فيه “حركة أحرار الشام”؛ لأنها ماطلت في تنفيذ اتفاقها مع الجبهة، وهذا كله يحصل في وضع يمر فيه الشعب السوري في كارثة، وفي وضع تبين فيه أن ثمة فصائل مسؤولة عن الانهيار الحاصل في شرقي حلب، بسبب احتكار بعض الفصائل للسلاح والذخيرة، ومنعها عن غيرها، وهذا حصل حتى بمنع المواد التموينية عن الأهالي.

بعد كل ما حصل، أي: بعد كل هذه الكوارث، وبعد تجربة ستة أعوام، بات من الضروري القطع مع فصائل من هذا النوع، من الناحيتين الذهنية والسياسية، نظريًا وعمليًا، فهذه الفصائل حتى في مقاتلتها للنظام، أسهمت في تدعيمه وخدمته، وأضرت كثيرًا بالسوريين وثورتهم، وقد تبينت على أكثر من صعيد فاقدة للصدقية السياسية والأخلاقية، وطالبة سلطة فحسب. ليس القصد أن الثورة السورية كانت ستكون انتصرت على النظام من دون هذه الفصائل، ولكن القصد أن الثورة كانت ستكون أكثر صلابة وصدقية، أمام شعبها والعالم، وكان الشعب السوري سيكون أفضل حالًا مما هو عليه الآن.




المصدر