on
ممتاز البحرة الحيّ في رسومه
إبراهيم صموئيل
كلّ ما كان للقامة الفنيّة التشكيلية العالية، ممتاز البحرة، من الريادة والأسبقيّة في فن الكاريكاتير، وفن رسوم أدب الأطفال، أعمال وشخصيّات ماثلة في ذاكرة الكبار والصغار… لم تحفز سلطة الطغيان في سورية على حمايته من تهديد أزلامها الفاسدين، ولا على تكريمه في حياته، أو تأمين وضع يحترم شيخوخته!
رحل الفنان الكبير -قبل أيام- كما رحل غيره من كتّاب ومفكّرين وفنانين سوريين، مُشيَّعين بالحزن والإهمال والقهر من جرّاء سلطة مستبدّة، لطالما وجدت في المبدعين؛ حتى الرياضيين منهم كغادة شُعاع قبل أعوام، وسليمان الزّقة قبل فترة، أعداءً لاستبدادها، وخصومًا لوجودها، بمَنْ في ذلك غير المعارضين لها.
على صعيد القرّاء والمتابعين، وفي سياق الحياة الثقافيّة، حظي ممتاز البحرة ببالغ التقدير لسويّة فنّه، وعميق العرفان بتميّز رسومه، وواسع الاعتبار لكونه رائدًا أبدع في لوحاته الكاريكاتيريّة، كما في تكوين شخصيات مثل رباب وباسم وميسون، فضلًا عن الشخصيّة الشهيرة أسامة؛ وهذا ما أبقاه حاضرًا في الوجدان والذاكرة البصريّة لدى الكبار والصغار على حدّ سواء، وما سيبقيه حيًّا بعد الرحيل.
أمّا على صعيد السلطة، فقد عاش البحرة ما عاشته الأغلبية الساحقة من السوريين تحت الاستبداد، دون أيّ تقدير لإبداعه، ولا أيّ خصوصيّة لكونه من الروّاد الكبار في الثّقافة السوريّة، وهو ما يمكن التدليل عليه من غضب أزلام السلطة؛ بسبب رسومه الكاريكاتيرية عن الفساد والظلم المخيّمين -في الثمانينات- وإرسالهم التهديد والوعيد له ولأفراد أسرته؛ ما جعله يكفُّ -منذ ذلك الحين- عن الاستمرار قهرًا، وقلقًا على أسرته التي ما كان للطاغية أن يستثنيها –آنذاك- من التنكيل.
هذا موقف الطغيان الحاكم من مبدع في زمن الأب، وهو موقفها نفسه -مع عنف أشدّ يُذكّر بأفعال رجال العصابات- في زمن الابن، حين أرسلت السلطة، بأمر من رأس الطغيان دون أدنى شكّ، إلى الفنان علي فرزات مجموعة شبّيحة، قاموا باختطافه من ساحة الأمويين وسط دمشق، ثمّ كسروا أصابعه، وهشَّموا وجهه “كي تتعلَّم احترام أسيادك في المرة القادمة” وفق ما سمعه منهم وهو معصوب العينين، قبل أن يرموه من السيّارة، ويهربوا.
والحكايات المأساويّة لا تنتهي، عانى منها عديد من المثقّفين، بطرائق مختلفة، وأفانين متعدّدة لا تخطر للأبالسة، اعتداء، وحصارًا، وتهميشًا، وإبعادًا، وفق شهادات المبدعين أنفسهم الذين لطالما عانوا مرارات سطوة أجهزة الأمن عليهم وعلى نتاجاتهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ ما يغيظ السلطة ويراكم من حقدها، أن النتاج الثقافيّ -على كلّ المعوّقات المحيطة به من الطغمة الحاكمة- يمضي، ويحيا، ويُثمر، ويُقدَّر حق قدره، سواء من أبناء سوريّة أو من المتابعين العرب والأجانب.
وبسبب من ذلك، إنْ كان فناننا الكبير بجدارة، والرائد بحقّ، قد عانى ما عانى في سنوات المُستَبدّيْن الأب والابن من التقصير المُتعمَّد للسلطة بحقه، وبما كان يستحقّه من التكريم والاهتمام والتقدير الرفيع جدًا، فإنَّ ما يعوّض أرواحنا الحزينة -وروحه الباقية في وجداننا وذاكرتنا- أن الملايين من السوريين والعرب قد أحبوا هذا المبدع وتابعوا أعماله وقدَّروها، وأحسب أن فيض هذا سيستمرّ في غيابه أيضًا، وليمت الطغيان الحاكم بغيظه.
المصدر