نقد الخرافة


معاذ اللحام

في بحثه حول تاريخ فلسطين القديمة: “تاريخ اورشليم والبحث عن دولة اليهود” الصادر عن دار التكوين في طبعة حديثة، يضعنا فراس السواح في مواجهة سؤال كبير: أي قيمة تاريخية يحملها القص التوراتي بخاصة، والقص الديني بعامة؟ وهل يمكن اعتماد النص الديني نصًا تاريخيًا؟ وإن كان كذلك، فهل جرت البرهنة عليه وثائقيًا وأركيولوجيًا، في ظل التطور العلمي لوسائل البحث التاريخي وأدوات كشفه الحديثة؟

ينتقل صاحب” مغامرة العقل الأولى” في مشروعه الثقافي حافرًا في العمق المعرفي لإنسان الشرق القديم، محللًا الأسطورة بوصفها إرثًا ثقافيًا، موسِّعًا بذلك معرفتنا بإنسان الحضارات الشرقية، إلى نقد السرديات الكبرى، متخذًا من البحث العلمي التاريخي منهجًا في الدراسة، معتمدًا في ذلك على تحليل البيانات الأركيولوجية المباشرة ونتائج التنقيب الحديثة والبيانات النصية المكتوبة على الألواح واللقيات والمسلات شرط “أن تنتمي هذه البيانات إلى زمن حدوث الواقعة التاريخية”. وبذلك ننتقل من حيز التوقع أو الفرضية إلى مجال البحث العلمي المستند إلى الأركيولوجيا التي تظهر الواقع التاريخي كما هو، وكما كان فعلًا دون تأويله أو شرحه أو تقويله. ذلك أن الأركيولوجيا، بحسب رأي مطاع صفدي، “تظل أمينة -دائمًا- لما تعنيه الوثيقة. إنها قارئة وثائق”. (مقدمة كتاب الكلمات والأشياء لميشيل فوكو). ويتخذ، في بحثه، من أورشليم ” نقطة بداية ونهاية، ومحورًا يدور حوله البحث بكامله”، معلنًا أن هدف البحث هو الإجابة عن أسئلة محددة تتعلق بنشأة الدين اليهودي والكيان السياسي لليهود ومداه الزمني والمكاني، وعلاقة التاريخ اليهودي وتاريخ مملكتي يهوذا وإسرائيل، بتاريخ فلسطين الكبرى.

الخرافة الواعية

في مجموعتها الشعرية ” ذكر الورد” نجد هذا المقطع للشاعرة سنية صالح: ” أيها التاريخ العفن، يحقنون كبدك بمصل الحياة، وأنت في باطن الأرض حيث الفضلات والذكريات، صفارات إنذارك أخرستها طبول القيصر”. تبدو القضية الأكثر خطورة هي هذه: حقن التاريخ. هي إعادة إحياء الماضي وتدويره “للسيطرة عليه” من خلال إعادة سرد تاريخي مختَلَق وموجه لخدمة إيديولوجيا دينية أو قومية. إن عبارة كيث وايتلام، التي يوردها الباحث تلخص القضية: “يتحول الصراع على الماضي إلى صراع على الحاضر من خلال ابتكارات خيالية لماضٍ يعاد بناؤه تعسفيًا”. تلخص هذه العبارة الهدف الواعي لإحياء خرافة وجعلها حقيقة تاريخية، ونعني الحدث التوراتي بما يتلاءم مع المعطى السياسي للحاضر. فهل يمكن اعتماد النص التوراتي رواية تاريخية موثوقة؟ سنلخص السردية التوراتية كما أوردها الكتاب:

خرجت القبائل العبرانية من مصر بقيادة موسى، وبعد تجوال طويل في صحراء سيناء استولى على المناطق الواقعة شرق نهر الأردن. ورثه يشوع بن نون، وعبر النهر، واستولى في حروب صاعقة على معظم أراضي فلسطين، وخلال قرنين من الزمن توحدت هذه القبائل تحت راية الملك شاؤول، وخاض حروبًا طويلة ضد الفلسطينيين (شعوب البحر)، وقُتل مع أولاده الثلاثة، وانتُخب داود ملكًا، وكان أول عمل يقوم به هو استيلائه على أورشليم، فوسع مملكته وحكم نحو  40  سنة ( 1030 ق م – 1009 ق م )، ثم ورثه ابنه سليمان الذي كان أعظم ملوك الشرق، بحسب الرواية التوراتية. بعد وفاته انقسمت مملكته إلى قسمين: اسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة. ويهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم. وحكمت سلالة داود حتى نهاية مملكة يهوذا ودمار أورشليم على يد نبوخذ نصر البابلي 587 ق م.

هذه السردية تفترض أن تأسيس المملكة على يد داود حدث في القرن العاشر قبل الميلاد!

في ختام مداخلته أمام مؤتمر جمعية علم الآثار التوراتي في سان فرانسيسكو 1997 الذي عقد بعنوان: أين القرن العاشر؟ يقول عالم الآثار الإسرائيلي أوسيشكين: “إنه لمن الصعب على روحي الرومانسية أن تقبل بهذه الوقائع. أرجو من الملك سليمان أن يسامحني”.

ذلك أن نتائج المسح الأركيولوجي الذي قام به العالمان الإسرائيليان: إ. فنكلشتاين وأوسيشكين بينت، أنه لا وجود لدولة موحَّدة (يهوذا والسامرة) في فلسطين، في القرن العاشر قبل الميلاد، كما تدعي التوراة، ولم تكن هناك أورشليم لكي يقهرها الملك داود، ولم تكن هناك هجرة من مصر لقبائل عبرانية بقيادة موسى!! تاهوا في الصحراء أربعين سنة وأتوا ليشكلوا دولة موحدة.

لقد كانت هذه النتائج هي النتائج نفسها التي خرجت بها عالمة الآثار واللقيات مارغريت شتاينر، وذلك في بحث منشور في مجلة علم الآثار التوراتي 1998، وكانت من أهم نتائجه: “أن أورشليم في أواخر القرن العاشر ومطلع القرن التاسع ق. م لم تكن أكثر من مقر إداري لسلطة سياسية متواضعة، وأننا أمام بدايات ولادة مدينة جديدة لم يكن لها وجود خلال بضعة قرون ماضية”

هيكل من ورق

إن أقدم نص للتوراة عُثر عليه في مخطوطات البحر الميت يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد واحتوى على أجزاء غير كاملة من الأسفار، ما عدا سفر أشعيا وجد كاملًا. وهذا ما يؤكده عالم الآثار غاريني الذي يعدّ من باحثي الاتجاه الراديكالي ذوي الموقف النقدي من الرواية التوراتية: “إن الأسفار المدعوة بالتاريخية في التوراة، قد دونت في العصر الفارسي، وأوائل العصر الهيلينستي”. هذا يعني أن أحداث سفر التكوين بعيدة 1900 سنة من تاريخ تدوينها، وقصة الخروج من مصر ودخول أرض كنعان بعيدة 1100 سنة من تاريخ تدوينها، وقصة مملكتي إسرائيل ويهوذا بعيدة 600-900 سنة عن تاريخ تدوينها. فمن أين أتى هؤلاء الملوك إذن؛ موسى، يشوع بن نون، شاؤول، داود وسليمان!؟

للإجابة عن هذا السؤال يعرض فراس السواح عدة نظريات يدعوها: “نظريات الأصل المحلي” نظرية آلت، نظرية الانتفاضة الداخلية، نظرية بوتقة الانصهار، ونظرية التطور الديني المحلي وهي “نظرية فراس السواح”، وترتكز على التمايز الديني لسكان المناطق الهضبية عن الوسط الكنعاني واستقلال المعتقد التوراتي عن المعتقد الكنعاني. وتخرج هذه النظرية بنتيجة: “أن الشعب الذي أنتج الثقافة اليهودية هو فئة كنعانية لم تغادر أرض فلسطين قط “.

ويعرض الباحث أيضًا النظرية الأركيولوجية الحديثة، مسلطًا الضوء على نتائج الأبحاث التي قام بها عالم الآثار الإسرائيلي آدم زرتال 1990-1980 وأظهرت أن القادمين الجدد وفدوا من مناطق رعوية شرق نهر الأردن. إلا أن وليام ديفر الأركيولوجي الأميركي، وفي مداخلة له في جامعة شيكاغو عام 2000، يطلق مصطلح “أشباه الإسرائيليين” قائلًا: “هذه الجماعات التي شكلت نواة الإسرائيليين في المناطق الهضبية، لم تأت من مصر ولا من أي مكان خارج أرض كنعان، وليس هناك ما يدل، آثاريًا، على هجرتهم من مصر أو غيرها. إنهم كنعانيون فلسطينيون”. وهذا ما أكده عالم الآثار الإسرائيلي إ. فنكلشتاين أيضًا: “إن أورشليم القرن العاشر ق. م كانت مقرًا سكنيًا متواضعًا جدًا، ولا يمكن وصفه إلا بقرية هضبية اعتيادية” وذلك اعتمادًا على الحفريات واللقيات والكسرات الفخارية على مستوى القرن العاشر. وهذا ينفي ما تدعيه التوراة ويستبعد أن تكون هذه القرية الصغيرة مركزًا “لإمبراطورية طموحة معزوة لداود وسليمان”، وأن الملوك الافتراضيون لم يكونوا “سوى أمراء محليين في أورشليم الناشئة”.

يهوذا والسامرة

نعثر على أول تقاطع أركيولوجي تاريخي بين التوراة والوثائق التاريخية في شخصية عمري باني، مؤسس السامرة قرب نابلس، بينما يظهر أول تقاطع فيما يخص يهوذا وعاصمتها أورشليم، في السجلات الآشورية عام 750 ق. م من ضمن الممالك التي دفعت الجزية، ويظهر أول اسم ملك لأورشليم وهو آحاز 735 ق. م، بينما تروي التوراة سيرة 11 ملكًا قبله.

لكن. هل كانت السامرة ويهوذا يهوديتين؟

يؤكد الباحث أن ديانة المملكتين كانت استمرارًا طبيعيًا لديانة كنعان، “وما يهوه إلا واحدًا من مجمع آلهة كنعانية اختير –لاحقًا- من التوراتيين دون بقية آلهة كنعان، وكان متزوجًا من عشيرة، الإلهة الكنعانية المشهورة “. أي إن، والقول للسواح أيضًا: “النص التوراتي هو الذي ابتكر اليهود واليهودية وليس العكس”

السبي الافتراضي والسبي الحقيقي

لا ينكر صاحب ” آرام دمشق وإسرائيل” تاريخية السبي، إلا أن هذا الإجراء لم يكن مقتصرًا على مملكتي يهوذا والسامرة. بل كان إجراء تقوم به الإمبراطوريات عندما تُخضع المناطق الخارجة على السيطرة. لكن الاختلاف يكمن في عدد المسبيين. وبعد سقوط آشور وسيطرة قورش الفارسي على بابل أمر بعودة المسبيين والمهجرين إلى مناطقهم، وإدارة حياتهم ذاتيًا، طالما هم يدفعون الجزية، ونال بذلك لقب: “مسيح الرب” من محرر سفر إشعيا. أما عن العدد الكبير العائد من السبي؛ فيفترض فراس السواح “أنهم من الشعوب المختلفة، وليسوا من مسبيي يهوذا فحسب” مستدلًا على ذلك بنص توراتي في سفر نحميا: “الذين ختموا هم باقي الشعب، وكل الذين انفصلوا عن شعوب الأرض إلى شريعة الرب”

أورشليم في العصور اللاحقة

يقدم الكتاب تفصيلات عن أورشليم وتطورها بعد سقوط الإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر المقدوني وورثته، ويعرض التطور الكبير في عهد هيرود العربي (الكبير)؛ موضحًا أن حائط المبكى جزء من السور الغربي الذي بناه هيرود. دُمرت المدينة سنة 70م، في إثر هجوم الرومان عليها، وأدى تدمير الهيكل إلى زوال مركز العبادة في أورشليم، وزوال الفرق اليهودية التي تشعبت في القرن الأول الميلادي، وما تلا ذلك من ظهور للربانيين وانعقاد أول مجمع في نيمينا، على الساحل الفلسطيني وولادة اليهودية التلمودية.

سنة 130-131 م هجم الإمبراطور هاروديان هجومًا كاسحًا على المدينة وسواها بالأرض، وبنى مكانها مدينة جديدة أخذت اسم: إيليا كابيتولينا. وبعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية، بنت هيلينا، أم الامبراطور، كنيسة في الموضع الذي تواترت الأخبار عن صلب المسيح فيه، وتحولت إيلينا إلى مدينة مقدسة.

استسلمت للمسلمين دون قتال سنة 638م. وعند دخول عمر بن الخطاب صلى في الزاوية الجنوبية الغربية من مصطبة هيرود، وبنى مسجدًا متواضعًا. بنى الخليفة عبد الملك بن مروان قبة الصخرة فوق الصخرة التي يقال إن الرسول عرج منها إلى السماء. استبدل العرب اسم إيليا بالقدس، وأصبحت مدينة مسيحية إسلامية مع أقلية يهودية.

إن ما طمح إليه الباحث فراس السواح في كتابه هو ربط الوقائع التاريخية بأسبابها وعوامل حدوثها؛ معتمدًا على الأركيولوجيا منهجَ بحث، محاولًا “تجريد التاريخ من قدسيته” لحساب صدقية الحدث وتاريخيته.

الكتاب : تاريخ أورشليم والبحث عن دولة اليهود

المؤلف : فراس السواح

الناشر : دار التكوين – دمشق




المصدر