on
الغارديان: “ديمقراطيتنا منقوصة، وفاسدة وغير موثوق منها، ولكن هناك طرائق لإصلاحها”
أحمد عيشة
إنَّ مجيء ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ردّان على نظام سياسي ينهار، ولكن يمكن لإعادة تصميم جذرية أن تنتزعه من الكاذبين؟
رسم نيكولا جينينغز
ناقصةٌ وغير ثابتة: هذا هو حالُ أنظمتنا السياسية. فاسدةٌ، فهي لم تنجز بعد إمكانياتها الديمقراطية. لقد فقدت أيضًا قاعدتها: السكانُ المرتبطون سياسيًّا، والذي من المفترض أن تنضج الديمقراطية منهم. لقد تأكّلَ الشعور بالمسؤولية إلى حدّ أنه، بدا دونالد ترامب بالنسبة إلى ملايين الأميركيين، ليكون الأفضل مما يمكن لهذا النظام أن يقدّمه.
أنا لا ألوم الناسَ لأنهم صوّتوا له، أو لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ فتلك ردّات فعل على نظامٍ مرتبك وغير موثوق. الانتخاباتُ مستحوَذٌ عليها بالمال، وجماعاتُ الضغط ووسائل الإعلام، وسياسة التقارب بين الأحزاب الرئيسية، تسحق الخيار الحقيقي، وتفرغ البرلمانات والمؤسّسات السياسية الأخرى وتنقل صلاحياتها إلى هيئاتٍ غير خاضعةٍ للمساءلة: تلك هي صيغةٌ مثالية للحرمان وخيبة الأمل. الصعود العالمي للديماغوجيين والكذّابين صراحةً يشير إلى أنَّ نظامًا بُنيَ اسميًّا على الموافقة والمشاركة ينهار الآن.
هل يمكنّنا أن نفعل ما هو أفضل؟ هل يمكن لنظام أكثر استقامةً أن يكون مستخلصًا من البشرية المتخشبة؟ هذا هو الجزء الثاني من سلسلتي العرضية بشأن الحلول الممكنة للأزمات المتعددة التي نواجهها، فهي تستكشف بعض الوسائل التي يمكن من خلالها تحسين الديمقراطية.
على مدى الأشهر القليلة الماضية، قرأت عشرات المقترحات، بعضها كريه بشدة، وبعضها الآخر جيّد جدًا، والنتيجة الاجمالية حتى الآن أنّه ليست هناك وصفةٌ سحرية، ولا خطةٌ واحدة يمكّن أن تحّل مشاكل ديمقراطيتنا من دون خلق مشاكل أسوأ، ولكن هناك الكثير من الأفكار، وسأذكر فقط عددًا قليلًا منها، التي يمكن أن تعزّز سياساتنا.
التحول الضروريّ الأوّل إصلاحٌ جذري لتمويل الحملات الانتخابية (التمويل السياسي). فسلطةُ المال في السياسة تُسمّم كلَّ شيء -بالمعنى الحرفي في بعض الحالات. في مقالي الأسبوع الماضي، ذكرت مفارقة التلوث: يجب أن تُنفق أقذر الشركات كثيرًا على السياسة إنْ كان عليهم ألّا يخرجوا من الوجود، حيث تهيمن أقذر الشركات على السياسة، وهذا ينطبق على جميع المجالات. تحتال البنوك الماكرة على الأجهزة المالية، وتبيع شركات الأدوية المنتهية الصلاحية، وتسعى شركات القمار لتجاوز الضوابط، وتبيع شركات المواد الغذائية خردة التسمين العضوية، وتستغل شركات البيع بالتجزئة عمالها، ويصمم المحاسبون كيفية التهرب الضريبي: لدى الجميع حافز كبير لشراء الفضاء السياسي، كالجميع، في نظامٍ عادل، سيجدون أنفسهم تحت الضغط، حيث يستسلم النظام ليتلاءم مع مطالبهم.
اقتراحي لإصلاح تمويل الحملات الانتخابية بسيطٌ إلى حدٍّ كبير. يحق لكل حزبٍ أن يطلب رسمًا رمزيًا مقابل عضويته (ربما 50 جنيهًا أو دولارًا)، والتي تُدقّقها الدولة، بمضاعفٍ ثابت، وأيّ تمويلٍ سياسي آخر، مباشر أو غير مباشر، سيكون غيرَ قانونيّ، وهذا من شأنه أيضًا أن يفرض على الأحزاب إعادة التواصل مع الناخبين.
هل الطلب غالٍ جدًّا (حيث يتعذر تحقيقه)؟ إطلاقًا؛ فإنَّ فسادَ سياستنا بالمال الخاص يكلّفنا مئات المرات أكثر من نظام تمويلٍ نتمنى أن ندفع له مباشرةً، فقد أدى هذا الفساد إلى الأزمات المالية التي سببها فشل السياسيين في تنظيم البنوك، والأزمات البيئية الناجمة عن السلطة السياسية لأقذر الشركات، والعقود المربحة لجهات التمويل السياسي، والثمن الفاحش للشركات المرتبطة بالأدوية.
الإصلاح التالي الحاسم هو مساعدة الناخبين في اتّخاذ قرارات مستنيرة، وقائمة على معلومات، حيث تقدّم ألمانيا مثالًا رائعًا عن الكيفية التي يمكن أن تكون فيها المساعدة؛ إذ تنشر الوكالة الفدرالية من أجل التربية المدنية أدلةً موثوقة ومتاحة حول القضايا السياسية الرئيسية، وتنظم مهرجانات السينما والمسرح والجولات الدراسية والمسابقات، وتحاول الانخراط في الجماعات التي تدير ظهرها للسياسة الديمقراطية. إنّها طريقةٌ موثوقة ويطلب الملايين استشارتها.
وتقدّم سويسرا خيرَ مثالٍ على الخطوة التالية: يقدم نظام التصويت الذكي (Smartvote)، [وهو نظام بدأ العمل به منذ العام 2003] قائمةً من الخيارات السياسية التي يمكنك أن تتفق أو تختلف معها، ثم يقارن إجاباتك مع سياسات الأحزاب والمرشحين المتنافسين في الانتخابات، ويقدّم رسمًا بيانيًا يوضح الوضع الذي يطابق بصورةٍ وثيقة اهتماماتك ومصالحك.
وهناك بعض التقنيات المدنية الممتازة التي تنتجها الجماعات التطوعية في مكان آخر (مثل نادي الديمقراطية [نادٍ غير حزبي تأسّس عام 2010، ولا يدعم أي حزب سياسي، بمعنى محايد سياسيًا، يقدم النصائح والارشادات التي تمكن الناس من الحصول على معلومات أفضل]، وCrowdpac [منصّة غير حزبية لتعريف الناس بالسياسة والسياسيين] وmySociety [منظمة محايدة سياسيًّا مهمتها توعية الناس بالنشاط السياسي ومصالح المواطنين.] في المملكة المتحدة). ولكن من دون تمويل ومساندة الدولة، تكافح للوصول إلى الناس غير المطلعين وغير العارفين وعلى الفور.
حالما تُطّبق هذه الإصلاحات، فإن الخطوة التالية هي تغيير الهيكلية. كما تشير كلٍّ من انتخابات الرئاسة الأميركية (المشوهة من جانب نظام المُجمّع الانتخابي) والانتخابات العامة في المملكة المتحدة (التي تسمح لأقلية من الناخبين بأن تملي إرادتها على الأغلبية)، وهذا ينبغي أن يبدأ مع التحول إلى التمثيل النسبي. من الناحية المثالية، في الانتخابات البرلمانية هذا من شأنه أن يمزج بين القومي والمحلي من خلال الاحتفاظ بروابط الدائرة الانتخابية، مثل التصويت الواحد القابل للتحويل أو للنقل أو نظام العضو الإضافي (نظام التصويت المختلط).
هناك كثيرٌ من المقترحات لتحلّ محلّ الديمقراطية التمثيلية، إما التخصيص/ سورتيتيون sortition (مندوبين مختارين عشوائيًّا) أو الديمقراطية المباشرة (الاستفتاءات ومبادرات المواطنين).
قد تعمل هذه النظمُ بصورةٍ جيّدة في الدولة- المدينة الصغيرة مع حقٍّ انتخابي محدود (تم استخدام sortitionالتخصيص، أو اختيار عشوائي للمحلّفين، في أثينا القديمة وفي البندقية وفلورنسا أيام القرون الوسطى). ولكن عندما يكون عدد السكان كبيرًا كحالتنا، تصبح هذه المقترحات صيغةً للكارثة. ومن الصعب أن نرى كيف يمكننا أن ننجو من الحاجة إلى السياسيين المهنيين والمتفرغين. (ربما، في نظامٍ عادل وقابلٍ للمساءلة، يمكننا أن نتعلم أن نحبهم).
ولكن أعتقد أنَّ كلا المقاربتين يمكن استخدامهما للحد من الديمقراطية التمثيلية، حيث يمكن أن يُنظر إلى Sortition بعدّها هيئة المحلّفين السياسية، التي يُختار المواطنون فيها بالقرعة مع شهادة من الخبراء، ثم يطلب منهم أن يأخذوا القرار. بصفتها أداةً استشارية، فإنَّها يمكن أن تُحافظ على التمثيل السياسي مستندًا إلى العالم الحقيقي، ويمكن استخدامها لخلق الاتفاقات الدستورية، التي تتم فيها مناقشة المقترحات لأنظمةٍ سياسية أفضل. قد يكون هناك حتى بعض الفضيلة في فكرة الغرفة البرلمانية الثانية (مثل مجلس اللوردات أو مجلس الشيوخ الأميركي) التي يُختار أعضاؤها بالقرعة.
ولكن يجب أن نكون على بيّنةٍ من المخاطر. كانت أول تجربة لحكومة وستمنستر، مع المواطنين المحلفين (محاولة جوردون براون لتحديد ما إذا كان يجب إحلال العيادات العملاقة محلّ الأطباء الجراحين) فاسدةً منذ ولادتها. كانت هيئةُ المحلفين مختارةً ومقدمة بشهادةٍ من جانب واحد، ثم دُفنت النتائج عندما تبين أنها “مغلوطة”.
لا يوجد نظام في مأمن من الاحتيال والتزوير، وحالما يجري إصلاح التمويل السياسي، فإنَّ مبادرات الاقتراع من النوع المستخدم على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأميركية -إذا جمَّعتَ ما يكفي من التوقيعات يمكنك طلب التصويت- تصبح أداةً سياسية قوية، وتُمكّن الناس من اقتراح التشريعات من دون انتظارٍ لممثليهم (من دون الإصلاح هم وسائل أخرى من الوسائل التي يتلاعب بها الأثرياء بالنظام).
تعاني الاستفتاءات حول القضايا الكبرى، مثل عضويتنا في الاتحاد الأوروبي، من عدم توازنٍ بين تعقيد القضية وبساطة الوسيلة: يطالبون بمستوياتٍ مستحيلة من المعرفة السياسية، ولكن بالنسبة لبعض القضايا البسيطة، وخاصةً المحلية -أيجب أن يُبنى طريقًا جديدةً؟، أينبغي هدم كتلة برجية؟ -يمكنهم، إذا صمموا بعنايةٍ، من أن يعزّزوا الشفافية السياسية.
أيضًا على المستوى المحلي، هناك طريقة تُدعى (سوسيوقراسيsociocracy – وهو نظام حكم يُتخذ فيه القرار بالإجماع) يُمكن أن تُعزّز الديمقراطية. هذا هو نظام مصمم لإنتاج القرارات شاملة ولكن بالإجماع، من خلال تشجيع الأعضاء في جماعة للحفاظ على معارضتهم لاقتراح حتى يجدوا كلهم إجابةً يمكن التعايش معها وقبولها، ويتم استخدام النسخة المصممة من جانب شركة إندينبيرغ Endenburg للإلكترونيات في هولندا على نطاقٍ واسع في الشركات والتعاونيات. ليس من الصعب أن نراها تنتج قرارات أفضل مما تنتجه اجتماعات السلطة المحلية. ولكن من الصعب أن نتصوّر كيف يمكن تحجيمها من دون أن تفقد الوضوح والمفهومية.
تحقيقُ أيّ شيء من هذا سيكون هو التحدي. سأكتب عنها وأشرحها في المستقبل. لكن التغيير يحدث عندما نقرر ما نريد وليس ما نعتقد أننا يمكننا الحصول عليه. هل ديمقراطيةٌ فاعلة طلبٌ غير معقول؟
اسم المقالة الأصلي | Our democracy is broken, debased and distrusted – but there are ways to fix it |
الكاتب | جورج مونبيوت، George Monbiot |
مكان النشر وتاريخه | الغارديان، The guardian،25/1/2017 |
رابط المقالة | https://www.theguardian.com/commentisfree/2017/jan/25/democracy-broken-distrusted-trump-brexit-political-system |
ترجمة | أحمد عيشة |
المصدر