في الثورة والشر والدين والسياسة
26 يناير، 2017
رشيد الحاج صالح
غالبًا ما يرافق الثورات مراجعات ثقافية وفكرية واسعة، تتناول السياسة والمجتمع، ومفهومات الحرية والسلطة، وماهية العدالة، حتى تصل إلى التفكير في معنى وجود الإنسان نفسه، وهل هو في خدمة المجتمع أم المجتمع في خدمته، وهل وجد من أجل الدين والقومية والقبيلة أم أن هذه الكيانات وجدت من أجله، أو بالأحرى من أجل السيطرة عليه وتدجينه.
سنتوقف مطولًا عند بعض المفاهيم المتداولة اليوم في حياة السوريين حول الحرب والدمار والثورة والحرية والدين والطائفية والأقليات والشريعة والكرامة واللجوء والتقسيم والقومية والبعث وداعش والتنظيم الأسدي… لنحللها ونراجعها ونمحصها، ونفكر فيها بعد ست سنوات من الثورة والدمار واللجوء والتدخلات الدولية غير المسبوقة، فلا ثورة على أرض الواقع إذا لم تترافق مع ثورة في القيم والأفكار المسبقة، والمسلمات التي كنا نظن أننا سنموت عليها؛ فإذا بها تذهب مع رياح الثورة.
الثورات على المبادئ والقيم المسبقة لا تقل صعوبة عن الثورة على نظام الطغيان؛ لأن تلك القيم والمبادئ التي سلّمنا بها، مثل نظام الطغيان، سيطرت علينا لفترة طويلة حتى بتنا نتوهم أنها من طبائع الأمور، وأن التفكير فيها يعد ضربًا من الجنون أو الخيانة أو العمالة أو الكفر، بحسب الإيديولوجية التي يعتنقها كل فرد.
* * *
سنتوقف اليوم عند تفكير السوريين في “الشر” وما هو مصدره، ومن أين أتت الشرور والحروب على السوريين وثورتهم، ولماذا حل بهم كل هذا الدمار؟ وكيف تعامل الناس مع تلك المصاعب والشرور؟ وكيف فسروها؟ وعلى من وضعوا اللّوم؟ وما الشرور التي منعت ثورتهم من تحقيق مطالبها في الحرية والكرامة والعيش المشترك القائم على المساواة والعدالة؟
إذا عدنا إلى لتاريخ نجد أن البشر أوجدوا السياسة بالأساس للتفكير في مواجهة الشرور التي أخذت تعكر صفو حياتهم الإنسانية البسيطة، واختلف التفكير بالشر بحسب نوع المعرفة السائدة في كل عصر من العصور، ففي العصور القديمة نُظر إلى مصدر الشر على أنه يعود إلى تدخل كائنات شريرة، أسطورية وميتافيزيقية ودينية..، أو على أنه عقوبة تفرضها الآلهة على البشر الأشرار، إلى أن أتت العصور الحديثة، وأخذت تفكر بالشر بعيدًا عن الميتافيزيقا (التفكير الفلسفي والديني بالكون والإنسان)، والتفتت إلى الشرور بوصفها من فعل البشر وأطماعهم وصراعات المصالح بينهم. هكذا أتى هوبز ليقول: إن الإنسان ذئب وعدواني بطبعه، وإلى مثل هذا التفسير ذهب فرويد الذي بيّن كيف أن الإنسان يحمل في داخله ما أسماه “غريزة الموت”. وعلى الرغم من ذلك، بقيت التفسيرات الدينية والميتافيزيقية تطل برأسها من حين لآخر، كلما ألمت بشعب ما نائبات الدهر، ووقع عليه من الشرور الدمار ما لا طاقة له على تحمله.
أما السوريون اليوم فقد تراوحت تفسيراتهم لما حل بهم من شرور ودمار بين القول بأنها تعود إلى همجية النظام الأسدي وطغيانه، وبين القول بأنها تعود للقوى العالمية، التي لم تكترث للدمار الذي حل بهم، بل على العكس، غذت ومولت كل القوى المتصارعة على أرض سورية؛ حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وبين من يقول: إن الشرور أتت مما يحمله الفكر الإسلامي من نزوع نحو العنف والقتل، وما عشرات الآيات والأحاديث ومئات الوقائع التاريخية وصور السكاكين هي تجز رقاب الناس على الشاشات، سوى شواهد لا تقبل الدحض، وبينّات لا تقبل الرد، إلى أن وصلنا إلى أكثر التفسيرات شيوعًا بين السوريين البسطاء، ويقول إننا السوريين لم نكن مؤمنين صادقين، وكثيرًا ما “نسبُّ الله” ولا نلتزم بتعاليمه، لذلك؛ أتت كل تلك الشرور والخراب، ولم تنجح ثورتنا، نتيجة عقاب إلهي، وهذا ما أكده معظم رجال الدين المتطرفين والمعتدلين بكلام واضح وصريح، أما أشهر من ردد هذا الرأي فهو الشيخ المحيسني ذائع الصيت. طبعًا دون أن ننسى التفسيرات الأخلاقية المعممة التي تذهب إلى أن ما حل بنا يعود إلى أننا لا يحب بعضنا بعضًا ونأكل حقوق بعضنا بعضًا، ولا نتمنى الخير لبعضنا بعضًا، وما إلى ذلك من عبارات أخلاقية ممزوجة بالشكوى والتحسّر والشعور بامتلاك الحكمة.
لا يمكن الخروج من متاهة كل تلك التفسيرات والتأويلات إلا بالعودة للسبب الرئيسي الذي أنتج ورعى ومرر كل تلك الأسباب الفرعية، ونقصد به “الطغيان الأسدي” الذي عمل خلال خمسين عامًا على زرع كل أنواع تلك الشرور داخل المجتمع السوري، ولا سيما الشرور الثلاثة التي لم يكن باستطاعته أن يستمر بدونها، ونقصد بها:
الطائفية، من حيث أنها تؤمن له قدرًا لا بأس به من التفرقة والغيرة والحقد بين الناس، يجعل مسألة السيطرة عليهم وتأمين قدر من التناحر بينهم أمر متاح، مثلما يؤمن له عددا لا بأس به من الموالين الطائفيين.
الفساد، ونقصد به تعميم وتعويم وتسويغ وعقلنة كل أنواع الفساد الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي. ذلك أن نشر الفساد بشكل واسع وحمايته وتسهيله أمر يثير لدى الناس نوع من الشعور باللا جدوى من الوقوف في وجه النظام لأن كل شيء آيل للسقوط، وكل الفئات الاجتماعية (موظفين، تجار، مثقفين..)، وكل الفئات الدينية (مؤسسات الافتاء، الزوايا الصوفية، مشايخ الطوائف، شيوخ الجوامع..)، غارقة في الفساد حتى وصل الأمر أن مؤيدي بشار الأسد قالوا بأنه يريد محاربة الفساد، ولكنه لا يستطيع ذلك؛ بسبب ضخامته وتجذره، وأنه بحاجة إلى عشرات السنوات حتى يتمكن من تحقيق ذلك. (طبعًا بالنسبة للأسديين كل شيء يحتاج لعشرات السنوات، فتحرير الجولان مسألة أجيال، كما قال حافظ الأسد في الثمانينيات، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل يحتاج لعدة خطط خمسية، والتخلص من الفساد يحتاج لخمسين عامًا كما صرح أحد كبار مساعدي بشار الأسد، وقل مثل هذا الأمر لحل مشكلات الكهرباء، والانتهاء من التعامل الورقي داخل مؤسسات الحكومة واستبداله بالتعامل الإلكتروني..).
إلغاء الديمقراطية وعسكرة المجتمع ومؤسساته، وهذا خيار استراتيجي لا يمكن للنظام أن يحكم سورية بدونه أكثر من 48 ساعة. فإلغاء الديمقراطية ووسائلها وأدواتها، أو تفريغها من مضمونها بشكل كامل، يعني الحكم بدون قانون وبدون حسيب ولا رقيب، ويعني استباحة المجتمع وخيراته، وتحويل المدارس والجامعات والتلفزيون والراديو والجرائد إلى أبواق للنظام وحسب، ليس لها من عمل حقيقي سوى عقلنة وتسويغ كل ما يقوم به النظام؛ حتى ولو كان عدم الرد على الغارات الإسرائيلية التي تشن على عاصمة الأمويين صبحًا ومساءً، وحتى لو كان التخلي عن السلاح الكيماوي مقابل البقاء في سدة الحكم، وحتى لو وصل الأمر إلى حد القول بأن تحرير الجولان يأتي عبر الانتصار على السوريين أولًا، (منطق هذه الحجة نجد (داعش) تردده أيضًا بصورة مختلفة، وذلك عندما قال شيوخها في خطب يوم الجمعة أن محاربة أهل الرقة وحلب ودير الزور الفاسقين مُقدَّمَة على محاربة النظام الكافر؛ لأن محاربة الكافر لا تتم عبر الاستعانة بالفاسقين).
فالاستبداد هو أصل كل الشرور، ولا يمكن للحياة الإنسانية لأي مجموعة بشرية أن يستقيم حالها بوجوده، أما الشرور الأخرى فليست سوى تفريعات منه، وهذا ما ألح وأصر عليه الكواكبي في بدايات القرن العشرين. فالدين لا يتحول إلى أداة للقتل والتدمير والتسلط والإقصاء والسلب والنهب إلا في ظل أنظمة الطغيان، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك. كما أن الطائفية لا تبرز وتتحول إلى أداة لتفرغ الأحقاد إلا إذا ترعرعت وتبنتها أنظمة الطغيان (إيران والنظام الأسدي وأنظمة الخليج) في حالة سورية الآن. حتى القوى العالمية وما تحمله من صراعات المصالح لا تفعل فعلها إلا في الدول التي يحكمها مجموعة من حثالة الطغاة. وقل مثل ذلك عن القوميات والانتماءات العرقية والقبلية التي سرعان ما تتحول من انتماءات إيجابية تُغني الحياة الإنسانية وتزاوج بين خصوصية الناس والأفق الوطني للشعوب إلى أداة للتناحر والعداوات عندما يكون الطغاة موجودين، لأنهم سرعان ما يحولوا تلك الانتماءات إلى أداة للتفريق بين الناس في الوقت الذي تجد خطبهم تلهث بالشعارات القومية الرنانة.
كل تفكير في السياسة بعيدًا عن تلك الحقيقة هو مجرد كلام لا يراد منه سوى التضليل، أو ناتج عن قلة في الوعي أو كسل في التفكير المنطقي البسيط. لم تسل دماء السوريين ولم يواجهوا كل ذلك الدمار سوى من أجل بلورة هذه الحقيقة، التي قضى النظام كل فترة حكمه وهو يحاول طمسها وأخفاها عن الناس، ولو لم ينجح لما استمر كل تلك السنين.
[sociallocker] [/sociallocker]