لماذا فجرت “تحيا تركيا” غضب السوريين؟


عبد الرحيم خليفة

أثارت تحية ضابط الشرطة السوري، التي وجهها إلى تركيا وأردوغان، في حفل تخريج دفعة من عناصر الشرطة في جرابلس ردود فعل متباينة، وسلطت الضوء على عدد من المسائل في ملف المواقف التركية من الثورة السورية، ومن المشروع التركي وتفاصيله التي ما إن تتجاوزها بعض الأحداث حتى يعاد طرحها ونقاشها من جديد.

يسترعي الانتباه، بداية، أن التحية جاءت في نهاية دورة تدريبية بإشراف تركي، وخضع المنتسبون للشرطة -على مدى أيام وأسابيع- لتدريبات متعددة ومتنوعة، ما ينفي صفة الارتجال والتصرف اللحظي والفردي على ما جرى، ويأتي بعد تصرفات مشابهة تصب في الاتجاه نفسه، مثل رفع العلم التركي على مجلس مدينة جرابلس المحررة من داعش، والكتابة باللغة التركية على مقار رسمية.

يندرج كل هذا في سياق التدخل التركي المباشر في هذه المنطقة، وبتسليم ورضا دوليين، ما يشير إلى تحول سورية إلى قطعة من الجبن تتقاسمها الأطراف المسيطرة على الأرض، وما حصل يقع في منطقة خاضعة لنفوذ تركيا وترتيباتها الأمنية والإدارية.

ينقسم السوريون عمومًا حول الدور التركي، وعلى مدى سنوات ظلت مواقفهم من كل حدث، كبير أو صغير، تؤشر إلى هذا الانقسام، وهو في جذره عند الغالبية العظمى إيديولوجي منغلق، فتراه أبيضًا أو أسودًا.

إن تحية نفر من السوريين لتركيا وأردوغان يقع ضمن حقوقهم الخاصة، مثل آخرين يحيون ويبجلون ويرفعون القبعات لمن يرون فيهم نماذج عليا، أما أن تأتي التحية نهجًا إداري في “مؤسسات الدولة الرسمية” فأمر آخر له معنى مختلف، ولا سيما أن الطريقة التي حدث بها ترديد الشعار على مسامع الناس، يوحي بأن أولوية التحية لم تعد للدولة السورية ورموزها، ولا بالأهمية التي يأملها كثيرون يتطلعون إلى استعادة سورية سيادتها واستقلالها، وبالنسبة لهؤلاء فإن ما جرى في جرابلس يعد إشكالية خطرة تستدعي المكاشفة والمعالجة.

تشير القضية في أحد جوانبها  إلى حالة الارتهان، التي آلت إليها معظم قوى الثورة المدنية والعسكرية، والتفريط بالمقدسات الوطنية العليا في ظل ارتدادات دون وطنية، أو عابرة لها، كما يُعبّر عن حالة من الخلط بين احترام الدول وقادتها، وبين الانبطاح والمزايدة الفجة، أي بين العرفان بالجميل وتقدير مصالح الأخوة والجيران، وبين التبعية والارتهان على حساب تضحيات جمّة لنيل الحرية والاستقلال، والأخطر أنه يفضح ثقافة وذهنية لم نبرحها على الرغم من سنوات الثورة الست، التي قامت لهدم منظومة كاملة من قداسة وعبادة الفرد وملحقاتها، وربط الأوطان بقادة وزعماء “تاريخيين” و”استثنائيين” و”ملهمين”.!

قد تكون عملية “درع الفرات” وامتداداتها، مفهومة من منظور مصالح تركيا الأمنية، إلا أن هذا التفهم لا يعني غض النظر عن بعض المواقف والاجراءات التركية التي تتناقض مع مبادئ القضية والمصالح السورية الوطنية، وبشكل خاص استقلالية سورية كدولة، ولا ينبغي النظر لانتهاك السيادة السورية شيئًا “طبيعيًا” إذا جاء من دولة تناصر حق الشعب السوري في الحفاظ على وحدة أرضه وصون هويته، ولا بد من مصارحة السلطات التركية السياسية، بكل انتهاك ومعالجته بطريقة ودية، خصوصًا وأن تلك “التحية” تُحرج تركيا وتسيء لها في وقت تتسلط فيه كل الأضواء على سياساتها، التي تشهد تحولًا كبيرًا منذ الانقلاب الفاشل في الصيف الماضي، وانعطافها نحو “المصالحة” مع روسيا، التي يرى البعض أنها تمت على حساب “ثوابت” مواقفها المساندة للثورة السورية، وتعكس تراجع خطوطها الحُمر مرة بعد أخرى!

في مناسبات عديدة صدرت عن السوريين المنحازين لتركيا، مواقف لم يصدر مثلها عن الأتراك، أو عن مناصري حزب “العدالة والتنمية”، وزعيمه أردوغان؛ ما يكشف مدى الاستعداد لدى قطاع واسع منا، لموالاة أو ممالأة أطراف خارجية على حساب الانتماء الوطني، بسبب الافتقار للمناعة الوطنية، وهو ما شهدناه فجًا وفاقعًا لدى مؤسسات وقوى ومجموعات سورية كثيرة.

جرابلس مدينة سورية، وستبقى جزءً لا يتجزأ من الوطن، ولن تغيّر الخطيئة المذكورة -حتى ولو حدثت بحسن نية من هذا الضابط السوري- من حقائق التاريخ والجغرافية، وإلى أن تتبلور وتنضج هوية وطنية جامعة يقتنع بها كافة السوريين سنظل نشهد حالات وسلوكيات من هذا النوع!!

في السياق ذاته، وحرصًا على أحسن العلاقات مع الجوار (وخاصة تركيا) والإقليم يفترض بجميع القوى المعنية، ائتلافًا، وحكومة مؤقتة، وفصائل عسكرية.. وغيرها، متابعة هذه المسائل الحساسة، التي تجرح مشاعر السوريين بقوة، لأن الرموز والمقدسات الوطنية لا تقبل هذا القدر من العواطف المبتذلة، التي أظهرها بعض السوريين ومحاولاتهم لتبريرها، ولا تتحمل المجاملات، وهي التي تقوم أساسًا على المصالح المتبادلة.




المصدر