on
مؤسس السياسة المخابراتية في المنطقة العـربية ورجل الظل الخطر
فأل موت عبد الحميد السراج.. ورائحة الأسيد التي ما زالت تنبعث مـن جسد فرج الله الحلو.
مات عبدالحميد السرّاج، في القاهرة بعد أكثر من خمسين سنة من الصمت، وبعد عملية تهريبه الشهيرة من سجن المزة في دمشق، إلى لبنان ثم إلى القاهرة، على متن الطائرة الصغيرة التي تنقل المجلات والصحف إلى جمال عبد الناصر فجر كل يوم، مات السرّاج دون أن يتجرّع الحسرات كاملةً بعد أن رأى كيف أن الشعوب قادرة على هزم جلاّديها، وأن الشعب هو الأبقى، وكأنه في قبره اليوم يتبسّم لعثرات الربيع العربي، ويتشفّي مما أصاب الناس، وهو الذي سنّ السنن وابتكر الطرائق في استعباد الشعب، وبعث العقيدة في العسكر، وتذليل المستحيل من أجل مصلحة الرمز الصنم الذي يسكن القصر الجمهوري، سيّداً على الجميع، وفي سبيله ليفنى الجميع، مات عبد الحميد السرّاج، مؤسس الذهنية المخابراتية السورية، والمتسبب الأكبر في سرقة الديمقراطية السورية من منجزيها، وصاحب المذهب الكبير في كسر شوكة أي سوري يحاول مجرّد محاولة أن يختلف عن الخط الذي رسمه له حارس البوابة ومسرج قناديل الموت في الأقبية والزنازين.
وكان السرّاج قد ولد في العام 1925، في المدينة السورية التي عانت أكثر من غيرها طيلة الخمسين سنة الماضية، حماة، ومنها انطلق إلى الحياة العسكرية، متطوّعاً في الجيش، ساهراً لياليه على أسوار حلب القديمة، حيث حي بحسيتا الشهير الذي عُيّن السرّاج حارساً ليلياً على بواباته وهناك درس وحصل على الثانوية ليلتحق بالكلية الحربية في حمص ويتخرّج منها في العام 1947، ثم رآه الناس محارباً شرساً في حرب فلسطين في العام 1948 وما عُرفت حينها وبعدها بسنة النكبة العربية الفلسطينية.
الولاء لجميع الانقلابات
شارك السرّاج في جميع الانقلابات التي عصفت بسوريا، وأظهر الوفاء والولاء لقادة تلك الانقلابات على اختلاف اتجاهاتهم ومصالحهم وحتى مصائرهم، ولكنه صمد في موقعه كرجل ظلّ، فقد بدأ الحياة العسكرية مرافقاً لحسني الزعيم صاحب أول انقلاب في سوريا والمنطقة، ثم لأديب الشيشكلي، ومن خلال شهادة العميد سامي جمعة وفي مذكراته الصادرة تحت عنوان (أوراق من دفتر الوطن) يمكن للباحث عن تلك الأدوار الخافية، أن يرى كيف أن السراج دخل كلية شرطة (الأفراد) لكن بعد أشهر من دخول كلية الشرطة جرى تهريبه من كلية الشرطة وفجأة دخل الكلية العسكرية، وتخرج مع المجموعة برتبة ملازم وكان ملازماً أول عندما أصبح مرافقا لرئيس هيئة الأركان حسني الزعيم وكان سكرتيره الخاص، ومن أكبر المتحمسين له عندما قام بانقلابه، وأصبح رئيسا للجمهورية، وحضر السراج اللقاء مع حسني الزعيم وموشيه شاريت وزير خارجية إسرائيل ورئيسها فيما بعد، لعقد اتفاق الهدنة، بعدها أصبح السراج ضمن الجهاز الخاص لسامي الحناوي الذي انقلب على حسني الزعيم وأعدمه، ومن ثم عمل السرّاج مع أديب الشيشكلي الذي انقلب بدوره على من سبقه، ويمكننا العثور على اسم عبدالحميد السراج في أول ملف كلّف به، حين فوجئت المنطقة بالمد الكبير لفكر أنطون سعادة صاحب كتاب (الإسلام برسالتيه المحمدية والمسيحية) وكتاب (نشوء الأمم) والذي يدعو إلى عودة الوحدة ما بين أجزاء سوريا المفككة، وكان أخطر ما في كتابات سعادة وحزبه الناشئ، هو وجود المشروع المتكامل، وطنيا ًوسياسياً، وكان لا بدّ من القضاء على (الزعيم سعادة ) فكان السرّاج العقل المدبّر من خلف حسني الزعيم في العملية التي أدّت إلى إعدام أنطون سعادة بعد أن لجأ إلى دمشق، واستقبله حسني الزعيم، وبعد شهر، سلّمه إلى السلطات اللبنانية في صفقة سياسية يوم 7 تموز1949 فحاكمته وأعدمته فجر 8 تموز 1949، بعدها تم تأهيل السرّاج مهنياً ومخابراتياً في دورة لمدة سنة كاملة قضاها في فرنسا من حزيران 1952 إلى حزيران 1953، حيث عاد إلى سوريا ليعيّن رئيساً للمخابرات العامة السورية، في العام 1954ـ 1955، وهنا بدأ مشواره الخطر في صناعة الألم الأمني للشعب السوري، ومعه شعوب المنطقة.
السراج، ناصر، القوتلي والحوراني
حرب السراج الأولى على القوميين
استمر السرّاج بعدها في حربه على القوميين السوريين، وأثار الكثير من الأسئلة حول دوره الخفيّ في حادث اغتيال القيادي البعثي العقيد عدنان المالكي نائب رئيس أركان الجيش السوري في 22 نيسان 1955 أثناء مباراة رياضية على يد رقيب في الشرطة العسكرية ينتمي إلى إحدى الأقليات الدينية السورية ويدعى يونس عبد الرحيم (الذي كان من أعضاء الحزب القومي السوري الاجتماعي)، وقد كان السرّاج أصبح وقتها واحداً من كبار ضباط المخابرات السورية، فنظّم اتهام الحزب القومي السوري باغتيال المالكي، ثم عمد السراج إلى اعتقال القوميين السوريين في حملات منظمة، وكان من بينهم زوجة أنطون سعادة نفسه، جولييت المير سعادة، والتي اتهمت السرّاج صراحةً بتدبير اغتيال عدنان المالكي وذكرت في الصفحة (185) من مذكراتها ( أثناء المحاكمات، وخلال تردّدنا على المحكمة، كنا نستطيع تفهّم ما يدور في الأجواء عن طريق المحامين، وعرفنا من يقف وراء هذه الحملة كلها ومن يحرّك تلك المحاكمات ومن يرتب التعيينات، من هنا ومن هناك، وفي كل هذه الأمور كانت الأصابع المشاركة في ضرب القوميين كثيرة ومتشابكة مع أصابع عبد الحميد السرّاج الذي عرفنا بعد الانفصال أنه مدبر عملية قتل عدنان).
تحولات المنطقة في الخمسينات
عاد السراج من فرنسا، ويخطئ من يظن أنه كان مجرّد رجل دموي يمثّل نفسه، فهناك الكثير من الإشارات التي تدلّ على أنه كان رجل المشروع القوي لتفتيت الحياة الديمقراطية السورية التي أسّس لها دستور الرئيس المستقيل أديب الشيشكلي، والذي على الرغم من أنه كان عسكرياً، إلا أنه حرص على إجراء التحوّل الديمقراطي في البلاد، عبر مؤسسات شرعية، كان على رأسها الجمعية التأسيسية المنتخبة التي وضعت دستور الخمسينات، برئاسة رشدي الكيخيا، ذلك الدستور الذي ما زال السوريون يعدّونه الوثيقة الوطنية الأكثر تقدّماً ومدنية، ويطالبون اليوم بإعادة العمل به، وقد ثبَّتت هذا وثائق مؤتمرات المعارضة السورية والمشاريع المقترحة لليوم التالي بعد سقوط نظام بشار الأسد.
حرص السرّاج على سجن عقله في مناخ المؤامرات واكشتافها، ومحاصرة السياسيين السوريين وعامة الشعب، على إثر التحقيقات العنيفة التي كان يجريها، وينتزع بها اعترافات وهمية تثبت صحّة نظرياته التآمرية، ومن أجل ذلك فقد زوّد جهاز المخابرات الذي عمل فيه، ثم ترأسه فيما بعد، بنخبة من المثقفين السوريين، كان من بينهم الشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس، وغيره من المترجمين والفنانين التشكيليين ومنهم الفنان المعروف ناجي عبيد الذي شهد على عمل علي أحمد سعيد معه في تلك المرحلة في الشعبة الثانية قبل أن ينتقل إلى بيروت، بينما قام السرّاج بسجن الشاعر محمد الماغوط في سجن المزة أيام الوحدة وبملاحقة رياض الترك بعد خروجه من السجن مما اضطره للعيش منفياً في بيروت، وبذلك تحوّل المكتب الثاني (الشعبة الثانية) إلى كتيبة صفوة تنفّذ ما يأمر به السرّاج، وتقدّم له المشاريع والأفكار والمقترحات والمعلومات.عاشت المنطقة العربية تحوّلات خطرة في تلك المرحلة،
وكان أبرزها ظهور ما عرف وقتها بـ (حلف بغداد) الذي هدف إلى وقف المد الشيوعي، وقادته بريطانيا مع تركيا والعراق والباكستان، وكان أحد أهدافه ضم سوريا إلى تلك الحاضنة، ومنع انجرافها باتجاه الاتحاد السوفييتي، في هذا المناخ أمّم عبد الناصر قناة السويس، وبدأت حربٌ سمّيت بالعدوان الثلاثي على مصر، شاركت فيها كلٌ من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، وكان عبد الحميد السرّاج أحد نجوم تلك الحرب، ولكن على طريقته، فعبد الحميد السرّاج هو رجل المخابرات العسكرية السوري الذي تولى تدمير خطوط أنابيب البترول الممتدة من العراق عبر سوريا الى سواحل البحر المتوسط لتصب فى الناقلات البريطانية لتغذية احتياجات بريطانيا من البترول، وقد أدى فشل تلك الحرب إلى صعود نجم جمال عبد الناصر في المنطقة، وأفول نجم أنتونى إيدن رئيس الحكومة البريطانية والذي قدم استقالته، وغادر إلى العزلة في أميركا اللاتينية.
كل الروايات التي شرحت كيفية اتخاذ القرار بإقامة الوحدة ما بين سوريا ومصر، استندت إلى شهود من الضباط السوريين الحالمين الذين قالوا إنهم ذهبوا على متن طائرة لمناشدة جمال عبد الناصر بالإسراع في الوحدة ما بين البلدين، دون أن يعلموا رئيس الجمهورية السورية وقتها شكري القوتلي أو حتى البرلمان، أو أية جهة تنفيذية وحكومية سورية، ولم تذكر الروايات أي شيء عمّن قام بإرسال هؤلاء الضباط بالطائرة إلى القاهرة، لإجبار سوريا على الدخول في مشروع الوحدة رغماً عن الرئاسة السورية والمؤسسات الأخرى، أو على الأقل في تجاوز صريح ووقح لدور تلك المؤسسات.
السراج مع عبدالناصر
دور السراج في زمن الوحدة مع مصر
كلّف عبد الناصر، عبد الحميد السرّاج بوزارة الداخلية إضافة إلى مهامه الأمنية فأنشأ مكتباً أمنياً خاصاً بالشؤون اللبنانية، مركزه في منطقة الحواكير في دمشق، وذكر الموثّقون لتلك المرحلة أن المكتب الخاص كلف خزينة الدولة مئات الملايين، أنفقت بلا حسيب ولا رقيب، واشترى بها السرّاج (عملاء وأحياناً أصدقاء) له في لبنان منهم النواب والوزراء وشيوخ العشائر.
وكان من أصدقاء السرّاج في لبنان وقتها، سميح عسيران نائب صيدا وسليمان فرنجية، رينيه معوض، صائب سلام، رشيد كرامي، عبدالله اليافي، صبري حمادة، عدنان الحكيم، شبلي العريان، خيري عوني الكعكي.
وقد طبّق السرّاج على الشعب السوري، أشنع وسائل السيطرة، واستجلب كل ما يمكنه من أساليب التعذيب والملاحقات الأمنية والاعتقال التعسفي، فأصدر تعليماته بعدم السماح لأي مواطن بمغادرة الأراضي السورية إلا بعد الحصول على (تأشيرة خروج) أو إذن سفر، فحوّل البلاد إلى سجن كبير، وأخضع الاقتصاد إلى التحديد والتضييق، ومنع الكثير من المواد الكمالية، فتفشت ظاهرة التهريب من بيروت التي كانت تحافظ على نظامها الاقتصادي الحر، وبدأت تتشكل عصابات تهريب منظمة حماها بعض ضباط الاستخبارات، وكان قد بدأ حينها حربه على الخصم الجديد في اللعبة الدولية، والذي يطلب عبد الناصر مساعدته ويشتري منه السلاح، ولكنه يضرب مصالحه تحت الحزام في مناطق أخرى من العالم، الاتحاد السوفييتي، فكان السرّاج يضغط على الشيوعيين السوريين ليمكّن عبد الناصر من الضغط على السوفييت.
حارس الحارة يصبح نائباً للرئيس
أخرج عبد الناصر السرّاج من سوريا، أوّل مرة، كي يضمن انسجام التكوين المخابراتي العسكري الذي بناه، في البلدين، ولكن بعد أن تفاقمت الأمور، وانقضّ الضباط المصريون على شعب الإقليم الشمالي (سوريا)، واستنزفت ثروات البلد، وطبّق عبد الناصر مستعملا مخلبه الفولاذي السرّاج، أنظمة التأميم والاستملاك والإصلاح الزراعي، فتم تدمير الصناعات السورية العريقة، وتفتيت المصالح الزراعية العملاقة التي كانت نموذجاً للمنطقة، وبعض دول العالم الحديث، فنزحت رؤوس الأموال، أو ما بقي منها، وهاجرت الخبرات، وانزوى السياسيون في المنافي الاختيارية، وكان على رأسهم، المواطن العربي الأول شكري القوتلي الذي فضّل مغادرة سوريا إلى الأبد حيث مات في منفاه. وانهارت الوحدة، في 28 أيلول سبتمبر 1961على إثر انقلاب قام به مجموعة من الضباط على رأسهم العقيد عبدالكريم النحلاوي، احتجاجاً على اعتقال سوريا كلّها باسم الوحدة، وعلى تبديد الثروات، وعلى نقل احيتاطي الذهب المركزي السوري إلى مصر، كما شهد بذلك النحلاوي ذاته في شهادته على العصر (البرنامج التلفزيوني الذي عرض على قناة الجزيرة) التي قلبت عليه الدنيا قبل سنوات، وكشف من خلالها الجريمة الكبرى التي تم تنفيذها باسم الوحدة، والتي لم تقدّم سوى المزيد من إهانة السوريين والسوريات.
انتهى السرّاج عملياً منذ 1961، وتوارى إلى الظلال، ولكن مدرسته المخابراتية، ما تزال تعمل في أكثر من بلد، وبالأخص بلده سوريا، التي عرفت بعد السرّاج أهوالاً كان قد أسّس لها بنفسه، وأوجد لها الشرعية.
وربما كان السرّاج يتألم طيلة السنوات الثلاث الماضية، وهو يرى كيف استفاقت القطعان التي ساقها إلى المذابح، وانتفضت، ولكنه كان بالتأكيد يتمنى أن ينزع الموت روحه قبل أن يرى السوريين وقد انتقلوا من مراتب العبيد إلى مراتب الأحرار وخرجوا من سجن السرّاج الرهيب وسجون خلفائه من أمين الحافظ وحافظ الأسد إلى علي دوبا وعلي حيدر وعلي مملوك وجميل حسن وعاطف نجيب وحافظ مخلوف وحتى بشار الأسد. ولئن كان نظام انقلاب البعث المستمر حتى الآن، قد قام بدور وظيفي وإجرامي خطير، في المنطقة، ضد دول مستقرة، وجماعات آمنة، فإن السرّاج كان أول المؤسسين لهذا الدور، وأوّل المشرّعين لبيع البلاد للغرباء.
واليوم يمضي إلى الموت ومعه ستمضي المرحلة التي بناها في ضفيرة تاريخية محزنة لا تقول أكثر من أن شعوب المنطقة سبايا في الزمان الجديد وخلاصهم
ليس بالنحيب والتمرّد ولكن بالمزيد من الوعي العميق بما كان وما سيكون..