مديح الاستبداد
26 يناير، 2017
ميخائيل سعد
كانت الإطلالة الساحرة على دمشق، من قاسيون، في صيف 1961، لا تُشبع معدة جائعة، ولا تُغني عن التسكع في شوارع دمشق، ولا تُحقق رغبات طفل في بداية مراهقته. كنت قد أنهيت الصف السادس الابتدائي، في مدرسة عثمان بن عفان، الكائنة في أول حي ركن الدين، وكنا نسكن الحي نفسه، ولكن في سفح قاسيون، كان راتب والدي بحدود 150 ليرة سورية، مع عائلة مكونة من سبعة أفواه. كانت إطلالتنا على دمشق “من فوق” سطح بيتنا رائعة، فدمشق العصيّة علينا، كانت تبدو وكأنها موضوعة في صينية ضيافة أمام سكان الجبل. ولم يكن الهواء المنعش في صباحات دمشق يمنع الإحساس بالجوع الذي يحتلّ المعدة طوال العام. كنت قد دخلت عالم قراءة مجلات الأطفال المصورة والروايات، وهذه كانت بحاجة إلى نقود غير متوفرة، وكان لا بدّ لي من إعالة نفسي فطلبت من والدي الشرطي، وكان واسطتي الوحيدة وأكبر مسؤول أعرفه، أن يجد لي عملًا صيفيًا، بانتظار افتتاح الإعدادية التي سألتحق بها، ففعل سريعًا. وهكذا وجدت نفسي في “الورشات” الصغيرة التي تحتل الطابق الثاني في سوق الحميدية الدمشقي الشهير، الذي انطلقت منه أولى صيحات الاحتجاج على نظام الأسد عام 2011، “السوري ما بينذل”.
كانت الورشة التي التحقت للعمل الصيفي فيها، مخصصة لصناعة “الجلديات”، وبشكل خاص صناعة محافظ السفر، من كل القياسات، من جلد البقر. كان عملي، كما قال المعلم صاحب الورشة: أن أكون بين الرجلين، إذا كنت أريد البقاء وكسب “جمعيتي”، وهي ليست قليلة، ست ليرات سورية عن ستة أيام عمل في الأسبوع. ولمعرفة أهمية المبلغ يجب مقارنته بما كان يمكنني عمله بواسطته: مشاهدة فيلم سينمائي 25 قرشًا، ثمن مجلة مصورة للأطفال 25 قرشًا، صحن “تسقية” 25 قرشًا، مع “تصليحة” أكثر من مرة، شراء قصة أو كتاب مستعمل من سلسلة حلمي مراد ”“كتابي” 15 قرشًا، رواية أم روكامبول وسيف بن ذي يزن، بليرة سورية، لكل منهما. هذه بعض الأشياء التي لا زلت أذكرها. بعد أن بدأت العمل، لم يعد عندي وقت لتأمل دمشق، التي كانت سماؤها، في ذلك الزمن، خالية من سحب الغبار والتلوث التي حجبت، فيما بعد، منظر دمشق الجميل عن الناس القادمين، إلى دمشق، عن طريق “التنايا” أو عن سكان جبل قاسيون.
كان من مهماتي اليومية حمل الجلود الجافة إلى سبيل المياه، في الجامع القريب، لنقعها بالماء، ثم إعادتها إلى الورشة. كان هذا العمل يتم مرتين في اليوم، أما بقية النهار فكانت مخصصة لأعمال أخرى صغيرة في الورشة، مما كان يسمح لي بسماع قصص الأشخاص الكبار في العمر، كالمعلم وأصحاب الورشات الأخرى، متنوعة الاختصاصات، وتُلبي حاجات المحلات في سوق الحميدية.
لا أزال أذكر جيدًا أن أحاديث أصحاب “الورشات” الذين كانوا يجتمعون وقت الغداء في ورشتنا، كانت كلها عن الإشاعات التي كانت تنتشر في دمشق، عن انقلاب وشيك سيحدث ضد الوحدة السورية – المصرية، وماذا قال عامر، وبماذا هدد السراج، وعن “الاحتلال” المصري لسورية، إلى آخر ما هناك من إشاعات. كان صيف ذلك العام جافًا وحارًا، وكانت مياه السبيل التي كنا ننقع فيه الجلود، تختلط بعرق أجسامنا فتخفف من وهج حرارة دمشق.
في ذلك الزمن لم تكن تهمني أخبار السياسة، ولم أكن أعرف هل عليّ أن أحب عبد الناصر أم أكرهه، ففي بيتنا لا أحد يتحدث عن ذلك، على الرغم من أن أخي الكبير كان طالبًا جامعيًا، وصهري، الذي يسكن معنا، رقيبًا متطوعًا في الجيش، ومع ذلك لا أذكر أنني سمعت تعليقًا عن عبد الناصر، الشيء الوحيد الذي أذكره، أن والدي كان قد أطلق اسم عبد الحكيم على أخي الذي ولد قبل سنتين، ولم يكن عبد الحكيم عامر غائبًا عن سبب تسمية أخي الصغير، لذلك؛ استنكرت، في ما بعد، القول إن المسيحيين كانوا ضد الوحدة أو ضد عبد الناصر.
حدث الانقلاب، وانتهت الوحدة، التي كانت أمل العرب، كما كانت الثقافة القومية تقول. وحدث قلق، كنا نراه من خلال قلق “المعلمين” الصغار، في الطابق الثاني في سوق الحميدية، فالتوتر واضح، والاجتماعات تنعقد وتنفض بسرعة، والناس في ذهاب وإياب. كان الحديث الذي استقر في عمق ذاكرتي، وهو تندر “المعلمين” عن المظاهرة التي خرجت في شارع النصر، فقد كان المتظاهرون يرفعون شعارات معادية للوحدة ولعبد الناصر، وكانت هتافاتهم تشق سماء دمشق، وكانوا قد قطعوا نصف المسافة ما بين محطة الحجاز والقصر العدلي، عندما أذيعَ البيان رقم 7 أو 9، لا أذكر تمامًا أيهما، ولكن الذي يقول بعودة الوضع إلى ما كان عليه، واستمرار الوحدة، وكيف انقلب غضب المتظاهرين أنفسهم في شارع النصر، من معارضين للوحدة وشاتمين لعبد الناصر، إلى مؤيدين لها وعشاق لعبد الناصر. كان موقف المتظاهرين ذاك هو اختصار وإيجاز للوضع السوري عام 1961.
ما استحضر هذه الذكرى في ذهني هو سلوك بعض السوريين، وخاصة من أدعى منهم أنه كان مع الثورة، وتصدّر المشهد السياسي في المعارضة أحيانًا، وكيف بدأ موسم “الهجرة” من “الشمال” إلى حظيرة “النظام” القاتل، جنوبًا، وكيف تغيّر كلامهم من الشتائم إلى مديح “الاستبداد”، وكأنهم هم من كانوا في شارع النصر عام 1961 في دمشق. مرت ستة عقود من الزمن، تقريبًا، على حدث المظاهرة، فهل تجمد الزمن السوري!؟
لا يمكن لأحد أن يعتقل الزمن، فهو قاهر “الثابت” مهما حاول ذلك بعض الناس.
كنت قد كتبت على صفحتي الفيسبوكية عام 2015 “بالمناسبة، الثورة ليست -وحسب- أن تُردّد الشعارات على طريقة البعث، الثورة أيضًا أن تُغيّر قناعاتك القديمة، مسلطًا الضوء على سلوكك كله، معترفًا بعيوبك ومتجاوزًا لهذه العيوب… الثورة هي أن تكون حرًا كما ولدتك أمك…”.
إنه “مديح الكراهية”، كما كتب الروائي خالد خليفة، ويبدو أن هذا الزمن؛ زمن لعق الأحذية ومديح الكراهية، على الرغم من رياح الثورة العاتية، ما زال مُقيمًا في نفوس بعض السوريين.
[sociallocker] [/sociallocker]