دفاعًا عن العلمانية في سورية


حسام ميرو

بدا واضحًا منذ دخول فصائل إسلامية إلى المدن والبلدات السورية، أن الثورة راحت تأخذ مسارًا مغايرًا عن البدايات، إذ راحت تلك الفصائل تستبدل المحاكم المدنية، بحجة كونها محاكم النظام، بمحاكم شرعية، تحتكم إلى “شرع الله”، في فض المنازعات بين الأفراد والجماعات، في القضايا الشخصية والعامة، وقد أسقط ذلك التغيير أحد أهم رموز الدولة المدنية، أي القضاء، ولم تُثر التشكيلات السياسية المعارضة، بما فيها الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة، هذه القضية، وتغافلت عنها، كما تغافلت عن كثير من ممارسات الفصائل الإسلامية في ما سمي بـ “المناطق المحررة”، وأدارت شؤونها قوى إسلامية مختلفة، بل وبعضها يحارب بعضًا، لكنها متفقة على إقامة “المحاكم الشرعية” مرجعيةً قضائية.

خلال السنوات الماضية، رفضت قوى وشخصيات إسلامية عدة، وفي غير مؤتمر ومناسبة، الإشارة إلى علمانية الدولة، أو إلى الديمقراطية، بل وعدّت بعض تلك القوى، وعلى لسان قياديين بارزين فيها، أنه من المبكر مناقشة هذين الأمرين، وأن الشعب وحده يحق له تحديد هوية الدولة، بعد سقوط النظام، وكان موقف الإخوان المسلمين، وعلى الرغم من عدّهم التيار المعتدل وسط الإسلاميين، ملتبسًا خلال صوغ وثيقة العهد الوطني في مؤتمر القاهرة، في تموز 2012، وهو الموقف الذي تبلور تبلورًا أصلب في محطات لاحقة، وخصوصًا مع إحراز الفصائل الإسلامية انتصارات عسكرية عام 2014.

في بعض المناطق التي حكمتها فصائل إسلامية مسلحة وُضعت لافتات تصف العلمانية والديمقراطية بالكفر، في محاولة لترسيخ حكم تلك القوى، والتضييق على أي نشاط سياسي معارض، بل وإيجاد المرجعية لمحاكمة الأشخاص بتهمة العلمانية والديمقراطية، كما خَلت بيانات الفصائل الإسلامية من أي إشارة واضحة حول التعددية السياسية، أو القيم الوطنية الجامعة، مكتفية بصيغ فضفاضة عن الظلم والاستبداد، وضرورة إقامة العدل، وغيرها من الصيغ الفاقدة لأي مغزى سياسي مباشر.

وبات من الواضح أن صفحات التواصل الاجتماعي تشهد، بين وقت وآخر، حملات يشنّها ناشطون “إسلاميون” ضد العلمانية، إذ يقومون بربط العلمانية بمظاهر سلوكية تعدّ من وجهة نظرهم أنها سلوكيات منحرفة، من مثل شرب الخمر، أو إقامة علاقات جنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية، أو المثلية الجنسية، وهو ما يسهم في حرف النقاش في العلمانية خارج نطاق السياسة، بل إنه يسعى إلى ترسيخ صورة ذهنية عن المطالبين بعلمانية الدولة، وهو ما يُعرف في الإعلام بأنه بناء الصورة النمطية عن الآخر، إذ يقوم هذا التنميط بأدوار مختلفة، ومن أهمها الحطّ من قيمة الآخر، ثقافيًا وأخلاقيًا، وجعله منبوذًا، وهو ما يدخل في الاستراتيجيات السياسية بعنوان “صنع العدو”.

لم تكتفِ قوى الإسلام السياسي السورية باختزال الصراع الوطني السوري مع النظام إلى بعده العسكري، لكنها أيضًا لعبت دورًا خطرًا في زيادة الانقسام المجتمعي، وهو ما سبقها النظام إليه، باحتكامه إلى الحل العسكري وتغييب الحل السياسي، ورفض منطق الحوار، واستهداف بيئات بعينها، وهو ما جعل القوى المدنية الديمقراطية تخرج شيئًا فشيئًا من الصراع، وتجد نفسها على هامشه، مثلما تراجع كثير من القيم الوطنية، وفي مقدمتها قيم التعايش بين المكونات المجتمعية.

لا تبدو العلمانية وحدها الخاسرة في صراع النظام والقوى الإسلامية، بل الوطن السوري برمته، إذ لا يمكن تصوّر إمكانية بناء مخرجات سياسية لأي تفاوض تتمتع بالاستدامة إذا لم تأخذ في الحسبان واقع التعدد السوري، وهوية النظام السياسي الذي يفسح المجال أمام بناء عقد اجتماعي جديد، خصوصًا بعد التمزقات الكارثية التي شهدها النسيج الاجتماعي السوري، وصلت حدّ التهتك، ولا يمكن التفكير بعملية بناء الجسور بين مكونات الشعب من دون دولة حيادية تجاه مكوناتها، وهو ما يوفره النظام السياسي العلماني.

إن عددًا من الأمثلة التي تشبه في هذا الجانب، أو ذاك، الحالة السورية تؤكد أن السلم الأهلي يبقى مهددًا في ظل نظم المحاصصة، خصوصًا عندما تحتكم تلك المحاصصة بشكل واضح أو مستتر إلى البعد الطائفي، وأن الطبقة السياسية التي تأتي في نظام المحاصصة هي الطبقة السياسية الأسوأ، وغالبًا ما تكون مرتهنة لمصالح فئوية ضيقة، كما أن هذا النظام يمنع الفئات المجتمعية من العمل سوية تحت الراية الوطنية الجامعة، ويقيم بينها حواجز وسدودًا عبر الدستور نفسه.

ليس من مصلحة الشعب السوري الوقوع في هذا الفخ الذي وقع فيه العراق ولبنان، وليس من مصلحته القبول بأن تكون مفاوضات تثبيت إطلاق النار وما سيتلوها من مفاوضات سياسية مقدمة للوصول إلى نظام محاصصة، وهو ما تشير إليه معطيات كثيرة، ومن حقّ السوريين أن يحددوا هوية دستورهم ونظامهم السياسي عبر الأطر والمرجعيات الوطنية، وهو ما يمكن أن يحدث في إطار المرحلة الانتقالية.

إن الدفاع عن العلمانية في سورية اليوم دفاع عن مستقبل العيش المشترك بين السوريين، ودرء لمخاطر التقسيم التي ما زالت قائمة، وهو دفاع عن مبادئ متلازمة مع العلمانية، من مثل الديمقراطية والكونية والحداثة والعقلانية، ودفاع عن خيار الخروج من مأزق الهويات الفرعية إلى فضاء الهويات الرحبة.




المصدر