رائحة الخطو الثقيل


سوزان علي

إبراهيم صموئيل صباح الخير…

إنها الساعة التاسعة وإحدى عشرة دقيقة، تأخرتُ في النوم ليلة أمس، حتى أنني نسيت عادات ما قبل النوم، لم أطفئ الضوء ولم أحضر كأس ماء وأضعها قربي، نمت متعبًة على أريكة الصالون. وكنت قد اخترت –عشوائيًّا- قصًة واحدًة من كتابكَ، كي اقرأها قبل النوم، فأنا لا أحبُّ الترتيب في القراءة، أي الانتقال من المقدمة إلى القصة الأولى فالثانية وهكذا، مرّات كثيرة يحدثُ أن أرجعَ إلى المقدّمة عند انتهاء صفحات الكتاب.

جاءت تلك الحكاية- دعني أسميها حكاية- بعنوان: الصناديق “إلى يوسف عبدلكي”.

استيقظتُ مثقلًة بالأحلام التي لا أتذكرُ منها شيئًا، سوى هذا الضباب الخفيف الذي تتركه حول حركتي وأنفاسي.

أفتح النافذة، أتفقد حال الغيوم والسماء والمارّة، أعود إلى فنجان قهوتي على الطاولة، أرشفه بهدوء وأتذكر الصناديق المعلقة فوق جدران غرفة يوسف عبدلكي القديمة، الصناديق التي ضمّت رسائلًا وصورًا وأوراقًا وقلائد، كان ينوي السفر مثلي الآن، لكن بفارق بسيط أن يوسف كان يستعد للرحيل خارج البلاد، يودع أشياءه كلها، وهو “يرشف الرشفة الأخيرة ثم يضرب الطاولة كأنه يهمُّ برفع كأس عرق”.

ليلة أمس، رتبت أغراض السفر، الأشياء تتغير وتبدو جديدة وكأنّي للمرّة الأولى أراها وأنا أنتزعها من مكانها وأبحث لها عن مكانٍ ملائم داخل حقيبتي، أشعر أنّها سعيدة، فأنا كسولةٌ في تغيير أمكنة الأشياء، تعودتُ مثلًا أن أضع فرشاة الأسنان في كأس زرقاء، والمعجون في الرفّ الأخير من خزانة الحمّام، دائمًا أُباعد الأشياء التي تعوّدتْ أن تكون ملتصقًة ببعضها، الخيطان في الدّرج الأول والإبرة في سلة من القصب، المزهريّة فوق الثلاجة وباقة الزهور في إبريقِ الزّجاج المزخرف.

سحبتُ الحقيبة حتى وصلت بها إلى باب بيتي الرئيسيّ، وضعت فوقها كيسَ زعتر، كنتُ قد اشتريتهُ لأمي من سوق ساروجة الدمشقيّ.

شربت قهوتي، ولم أغسل الفنجان، أحبُّ وجوه القهوة كيف تنشف على أطرافه، القاع تبدو كوحل مهجور، أغيب وأعود لألقاه جافًا في انتظاري، لم يحدث أن افتقدني أحدٌ ما بهذا الشغف.

حقيبة يدي جاهزة كالعادة، الأشياء في داخلها يصعبُ عليَّ أن أعيد ترتبيها في أخرى، أشتري حقائب كثيرة لكن قلّما أستطيع أن أبدّل بينها، أحسُّ أنها تشبه بيتي وطريقة ترتيبي له.

بين أوراقي الشخصيّة وحبوب البنادول ومفتاح بيتي وعلبة سجائري، غرق كتابكَ الصغير.

عزيزي إبراهيم، أثقُ بحدس الكلمات التي نكتبها لتصدق فيما بعد، وأثق –أيضًا- بما تريد المصادفة أن ترويه، عندما تختارُ كتابًا من بين كلِّ الكتب التي وضعتها جانبًا، كي تقرأها فيما بعد.

أثق في اللاشعور المسترخي داخل الكتب، يأخذ مزاجك معه ليصيرا جسدًا واحدًا، كعنوان كتابكَ داخل حقيبتي المسافرة: “رائحة الخطو الثقيل”.

من أخبرَ هذا الكتاب عن سفري هذا الصباح إلى اللاذقيّة؟؟

من قال له إنني بكلِّ هذا الملل والحزن سأغادر؟؟

من يكون قد أحضره لي في الأمس، سوى الحدس الأليف للكتب في بيوتنا!

في سيّارة الأجرة توجهتُ إلى الكراج، لم يعد الكراج في حرستا منذ زمن طويل، حتى حرستا لم تعد في مكانها. نقطة انطلاقنا كانت من حرستا…أتذكر؟! هل تتذكر كافتيريا الطابق الأول في الكراج؟؟ أشعر أنكَ جلستَ هناك مطوّلًا، كنتُ أكرهُها كثيرًا، الآن اشتاقُ للذباب الشارد فوق نوافذها المتّسخة، لمشمّع الطاولة الدّبق الذي كنت أرخي عليه نعاسي، وأحتسي قهوةً لها طعمُ كلِّ شيء ما عدا القهوة.

بلعتْ الحرب حرستا والكراج، وتركت لنا نحن المسافرين خطًا طويلًا من المجهول، تتمدّدُ فوقه الحافلات كجثث، وتسنده أكشاك صغيرة لبيع السعال والفقر والتشرد.  لم يعد في حوزتنا نقطة انطلاقٍ نهوي منها إلى العالم.

أرنو من نافذة الحافلة: امرأةٌ بدت لي من الشمال السوري، بزيّها الريفي المتواضع، فستان قرويٌّ طويل، تصل أطرافه المزركشة إلى الأرض، تمشي وتجرّه وراءها ملوحةً برغيفِ خبز في يدها، نادت على ابنها، الذي أخذ يركض وراء شاحنةٍ مسرعة، التقطتُ كتابك من حقيبتي نظرتُ إلى لوحة الغلاف، ثم بحثت مجدّدًا من خلف زجاج النافذة عن تلك المرأة، لم أجدها، كان صبيٌّ في العاشرة من عمره تقريبًا، يجلس -أرضًا- تحت نافذتي، يدخن ويضرب نعل حذائه بالأرض.

سأضيف هذه الصورة التي رأيتها للتو، وأعلّقها تحت الإهداء الذي بدأ فيه كتابكَ: “إلى رام”

قاطعني فجأًة، مساعد الحافلة طالبًا هويتي الشخصية وورقة الحجز.

أنظر من النافذة مرًة أخرى، تعود تلك المرأة إلى المشهد، تضع في فمها سيجارة ومن يدها تتدلى فردة صندل، ربما كانت تضرب ولدها الذي ما انفكَ يلاحق الشاحنات المسرعة، تجثو قرب بائع دخانٍ وهي تلهث.

لم أشعر أن شيئًا غريبًا حدث خارج النافذة، قاطع صمتي وقراءتي.

تمشي الحافلة، يطلع من بين الصفحات طائرٌ غاضب، وجهه كسهمٍ ناريّ، يحملني فوق جناحيه، نخترق النافذة الزجاجيّة معًا ونمضي.

نادى مساعد السائق باسمي، كي يعيد إليّ هويتي، ظننته السّجان في قصة ” الزيارة”، عندما راح يصيح خارج المهجع: “سعد عبد الكريم …زيارة”.

الآن… نحن على وشك الوصول إلى حمص، أعرفُ حمص من أشجارها المائلة. لا انتبه للوحات المغروسة على امتداد الطرق، أعرف المدن من غيومها، ترابها، أعشابها، نعاسها، عطشها، شهوة صخورها وهي تلمعُ وتخفت.

كان رجل يصيح في المقعد الخلفيّ لصديقه قائلًا: انظر إنّها كالمقبرة.

نظرتُ مشدوهًة إلى الخارج، كانت رؤوس الأشجار المقطوعة تنتصب كشاهدات على طول الطريق.

قطعوا الأشجار، أردف الرجل صائحًا: كلّ شجرةٍ لا يقلُّ عمرها عن عشرين سنة، هكذا ببساطة نقطع الشجر من أجل بيع الفحم والحطب، لا أبرّرُ لأحد عملته هذه، نحن شعبٌ يكره النبات والحيوان والهواء… ثم تابع متنهدًّا مستسلمًا لهول المشهد: “ببلاد برا بتعمل السيارات حادث عالطريق إذا مرقلو شي كلب أو قطة”

لقد أصبحنا عرايا يا صديقي، هذا الطريق الذي كانت تتمايل الأشجار على جانبيه وتصفق، حتى أنها تلاصقت لتصبح سماء؛ اعتدنا أن نمر تحتها ونرى أصابع الضوء بين أوراقها. لا أشجار الآن، لتبكي بين أغصانها ريح حمص.

كأني أنتَ، تجمّدتُ مكاني، رحتُ أتابع قصة “المقبرة”، أقرؤها خارج الكتاب بين رؤوس الأشجار المقطوعة، بينما أنت كنتَ تكمل:

“كانت المدينة خارج المقبرة، في تلك اللحظة، كئيبة إلى حدّ رهيب، سكونها موحش ومفزع، مجللة بالظلام الأبكم، وموشاة بالبيوت الإسمنتية، الكالحة، المتنافرة، بفوضى، بعضها قرب بعض، تفصل بينها ممرات، سوداء، ضيقة، تتسع لأقدام الأشباح التي تجوب المدينة، بحثًا عن المطاردين المتخفين، فتظهر تارًة وتغيب تارة”

من حسن حظي أنّي جلستُ في مقعدٍ منفرد، أتاح لي أن اقرأ بهدوء بلا رقيبٍ، أفرد الصفحات على حريّتها، أرفع الكتاب إلى النافذة كي يرى معي الطريق، ثمَّ أطويه، غامسةً يدي في الصفحة التي وصلتْ إليّ، أصابعي تذوقُ الكلمات، تكمل القصة، وعيناي مغمضتان.

مقابل مقعدي، جلستْ سيّدةٌ أربعينيّةٌ متشحًة بالسواد، تلبس خاتمًا فضيًّا في إصبع يدها اليسرى، تضمُّ حقيبتها جيّدًا إلى حضنها كما لو كانت طفلها، همستْ لي أنّها تريد منديلًا.

هل كانت هي نفسها “ليا”؟! معلمة المدرسة في القصة التي أنهكتها قساوة الحياة والواقع، ودفعتها حتى إلى التفكير بسرقة طلابها، عندما أعطتهم مثالًا بسيطًا، تطلّبَ أن يُخرجَ الطّلابُ كلّ النقود التي يملكونها، ويضعونها على الطاولة أمامها، ليظهر شريطُ عمرِها وحزنها وخوفها ممدّدًا أمامها.

أعطيتُ المنديل لتلك السيدة، ولم تترك حقيبتها أبدًا بل ظلّت على ذات الهيئة، تحزمها وتشدّها بقوةٍ إلى صدرها، هزّت رأسها لي شاكرًة، لم التفت إليها مباشرًة مرًة أخرى، كنتُ أرنو إليها بطرف عينيّ، ثم أُطمئِنُ قلبَ “ليا”.

نصفُ ساعة -تقريبًا- على الحاجز العسكريّ، أخذوا منّا بطاقاتنا الشخصيّة أيضًا، توقفت حافلات عديدة بالقرب منا، قسمٌ من الركاب نزل ليدخن سيجارة ويتنفس، وكأننا كنّا في سجن.

امرأة مع طفلتها قطعت الغابة، وراحتْ تبحثُ عن مخبأ تقضي به الطفلةُ حاجتها، الأب جلس مقرفصًا أمام الحاجز يدخن سيجارة، لم أطلْ بقائي في الخارج، تركت كتابكَ مقلوبًا فوق المقعد ورجعتُ إليه، أريد أن أعرف ماذا كان ينوي أن يقوله لكَ ذاك الراكب في القصة الأخيرة من الكتاب، الذي جلس قربك في الحافلة، وأخذَ يحدثكَ متذمرًا بأشياءَ غير مفهومة وكأنكَ صديقه القديم.

عزيزي إبراهيم…. لقد دخلنا الآن مدينة بانياس، ومررنا تحت الجسر، البحر يبدو شاحبًا، ضوءٌ مشمس خفيف يدورُ في وسطه، وكأنه حقل قمح.

كان معاون السائق في قصتك الأخيرة، يصيح الكلمات ذاتها التي قالها لنا المعاون في هذه الحافلة: “يا شباب النازل هنا يعجل… الوقوف ممنوع!”

كنتُ الأخيرة التي تنزل من الحافلة، وضعتُ حقيبتي أرضًا، الركاب جميعهم سبقوني ونزلوا، أخذوا حقائبهم، وصافحوا بحرارةٍ من كان بانتظارهم، ثم مضوا.

كان المطر يسقط غزيرًا فوق ظهورهم المغادرة، فوق أعقاب سجائرهم، فوق شبابيك الحافلة الفارغة.

قلتُ في سرّي: “إنها رائحة الخطو الثقيل في هذه المدينة”.

تذكرت كتابكَ، تفقدّتُ يدي، كانت قطرات المطر تدخل كدموعٍ بين أوراقه.




المصدر