on
سوريّة دولةٌ علمانيّة
عمار ديوب
رفضت الاتجاهات السياسيّة الدينيّة السوريّة الإقرار بمصطلح الدولة العلمانيّة، وعمّمت بديلًا عنه الدولة المدنيّة أو الدولة الديمقراطيّة، منذ 2011 خاصةً؛ لم ترفض أغلبيّة القوى السياسيّة السوريّة هذا التعميم، وناورت وناقشت الأمر كثيرًا، وأنّ مجتمعنا “دينيّ”، وأنّ المدنيّة تتساوى مع العلمانيّة. ممارسات القوى الإسلاميّة والطائفيّة عامة تؤكّد أنّ المدنيّة تتساوى مع الإسلاميّة والدينيّة، وفي تطورات الواقع وصلنا إلى دولة الخلافة أو الإمارة، وطُرد كل تمثيل مدنيّ من أرض تلك الدول، أي هَجروا أو سَجنوا أو قَتلوا من لم يستطع النظام الوصول إليه. إذن؛ موقف المعارضة غير الإسلامية بخصوص التساهل في الدولة المدنيّة كان مغلوطًا، ويجب تغييره. ولكن السؤال يُطرح ثانية: ما البديل عنه، الجواب الدقيق هنا: الدولة العلمانيّة.
مع اجتماع آستانا، طَرحت الدول الراعية مصطلح الدولة العلمانيّة. “المعارضة” رفضت ذلك، ومن ثَمّ؛ أعطت لتلك الدول وللنظام السوريّ فرصةً للتنديد بها، وأنّها معارضة فئويّة وإسلاميّة، وزاد في الطين بلّة تسريب صور لإسلام علوش وهو يؤم جزءًا من وفد آستانا، وكلمته التي تضمنت ذكرًا للصحابة الأربعة؛ وهي ممارسات دينيّة وتشوّش على الفاعلين في الشأن العام. رفض الدولة العلمانيّة هذا يؤكد مجدّدًا أن هذه القضية لم تُحسم بعد، وأن مفهوم الدولة الإسلاميّة والطائفيّة هو الأصل. بهذا المفهوم ننتقل انتقالًا تامًا من الاستبداد السياسي إلى الاستبداد الديني، وتتأسس الطائفيّة لتكون شكل الحكم المقبل، وبذلك لا تشذّ مطامح السوريين عن إخوتهم العراقيين واللبنانيين، الخاضعين لأنظمة طائفية مفروضة عليهم.
تعترض شريحة سياسيّة ومثقفة على الرأي السابق بالقول: وهل النظام الحالي علماني؟، ويتعالى الصوت بأن الثورة لم تتكلم عن العلمانيّة، وطبعًا تُشن الحملات الإعلاميّة التشهيريّة ضد القائلين بالعلمانيّة وأنّهم كفرة أو من أتباع النظام “الباطنيين” أو الأقليات وسوى ذلك كثير، ويُقدم المُشهِرون أنفسهم وكأنّهم يُمثلون المجتمع، أو الدين. هذا الجدال الفاسد، يرفض النقاش الجديّ بخصوص شكل الدولة المستقبليّة، وللإحراج -كما يتوهمون- يقولون: فليُقرّر الشعب ذلك حينما يعود إلى السياسة؛ فهو المُقرّر طالما ندعي نطقًا باسمه ولأجله. لم يجف الحبر ولم تتكسر الأقلام بهذا الكلام طبعًا؛ اللعب على الوعي الديني والطائفي أسهل الألاعيب، وهو شائع، ومن ثم؛ هناك مسائل يجب الإقرار بها من التيارات السياسة والمثقفة، ويمكن تسميتها -كما شاع- بمبادئ فوق دستوريّة، وتكون بمنزلة المقرّرة لكيفيّة إدخال السوريين ضمن النهوض العام. أي تشمل تلك المبادئ مسائل عديدة ومتنوعة وتخص كل أوجه المجتمع، وبما يؤسس دولة للكل الاجتماعي.
طُرحت قضايا فوق دستورية طرحًا قويًا لأول مرة في اجتماع المعارضة في تموز/ يوليو 2012، وأُعيد طرحها بأشكال متعددة، وكان القصد من ذلك منع أي انزلاق للسوريين نحو الطائفيّة بما يُمأسسها، أو الانتقام، وتأسيس دولة كل السوريين. إذن، مصادرة القوى الإسلاميّة والسياسيّة، بحجة أن الشعب يريد، هو بالضبط لإحكام السيطرة عليه، ولفرض مشروعات تلك القوى، وبما يلغي إمكانية التطور الفعلي؛ ففي حقل السياسة لا بد من الإقرار بمنظومة حقوق الإنسان والمواطنة، ومن ثَم؛ بالعلمانيّة، وفي حق الاقتصاد لا بد من الإقرار بالتصنيع الواسع في جميع المدن السوريّة، وبغض النظر عن القطاع العام أو الخاص، وفي حقل التعليم لا بد من انتهاج تعليم حداثي وعدم السماح بأي خلط بين الدين والتعليم، وفي حقل الدين، لا بد من إبعاد أيّ صلةٍ له بالدستور أو القوانين، وعدّه شأنًا روحيًا وأخلاقيّا للمواطنين، ومسألة إيمانية تخص علاقة الفرد بالإله. هذه نقاط مركزيّة، تسمحُ بتأسيسٍ دولة الكل الاجتماعي، وتُخفف من الاحتقان الذي تراكم تاريخيًّا، أو ضمن السنوات الست الأخيرة. ودون ذلك هو تلغيمٌ لحياة السوريين بعقبات ومشكلات تُسهل عملية سيطرة القوى السياسيّة وداعميهم وتحكيمهم بسورية وبالسوريين.
بيان اجتماع آستانا، وما سُربَ من دستورٍ روسيٍّ لسورية، يُعرفان سورية بأنّها جمهوريّة مؤلفة من أديان وقوميات، ويجري بذلك تعميم التساوي الفاسد بين القوميات وتسييس للأديان، وإن كان البيان والمُسرب يقولان كلامًا يرفض الطائفية. فالتأسيس لها يكون بالقول أن سورية مؤلفة من أديان؛ بينما الصحيح القول بالمواطنين، أو الشعب، أو الأفراد، أو سوى ذلك. مسألة إسقاط صفة العربيّة عن الجمهورية ليست هي المشكلة، بل المشكلة تكمن في المساواة بين القوميات؛ فالصحيح أنه لا يمكن المقارنة بين العرب وبقية القوميات؛ فهناك أغلبية ناطقة بالعربية، وأقليات ناطقة بلغات أخرى. هذه مسألة واقعية وتترتب عليها قضايا كثيرة، وعليه؛ يجب رفض التعميم الفاسد مع تأكيد إسقاط كلمة عربية من تسمية الجمهوريّة، وكذلك رفض كل تعريف للشعب باسم الدين. خلاصة الكلام هنا أن سورية مكونة -ككل بلاد الأرض- من مواطنين، وقوميات متمايزة، والجميع يشكل دولة واحدة، ولهم الحقوق ذاتها، ويمكن التوافق بعد ذلك حول السلطات المحلية، وتقليص دور الدولة المركزية، وبما لا يتعارض مع الاستفادة من الموارد الباطنية والمائية، وبما يسهم في إشادة دولة مصنعة وفي جميع المجالات، وإنصاف القوميات كافة.
جولة المفاوضات الأخيرة، وهناك جولات لاحقة، وهناك تعقيدات كبيرة مع الأكراد في سورية، وهناك تدخلات إقليميّة كبيرة لتأزيم تلك التعقيدات، ومن ثمّ؛ التوافق حول هذه القضايا أساسيٌّ لتحقيق أهداف الثورة، ومواجهة تلك التعقيدات؛ طبعًا غياب التوافق حول ذلك يشكل غياب أيّ دورٍ وطنيّ فاعل للسوريين، وتحكّمًا كبيرًا للدول الخارجية، وللمستثمرين بالأوهام الدينيّة والقومية.
أعلم أن تكرار القول بأهداف الثورة السورية بات معزوفة قديمة؛ فهي أهداف تخص الانتقال بسورية نحو دولة تصان فيها الحقوق “الحرية والكرامة” مع إنهاء كل شكل للمظالم؛ التغيّر الذي طرأ ووصلنا فيه إلى “احتلالات” متعددة وسلفيات وجهاديات وقوى كردية شمولية، كلها مسائل تقول بالتعقيد السابق، ومن ثمّ؛ عدم وجود وصفة مسبقة لإنهاء التأزم.
هذا الواقع يتطلب نقاشًا يتجاوز المهاترات، والضيق القومي والديني، ويسهم في إبعاد كل أشكال التزييف والأدلجة والكذب، ويوضح مخاطر المشروعات غير الوطنية على مستقبل السوريين. سورية ولأسباب متعددة ومعقدة لا يمكنها أن تكون إلّا دولة علمانيّة ديمقراطيّة.
المصدر