في السينما السوريّة بعد آذار ٢٠١١


دلير يوسفدلير يوسف

مخرج وكاتب سوري

بقلم .

كانت المؤسسة العامة للسينما هي المسيطر شبه الوحيد على صناعة السينما خلال سنوات حكم عائلة الأسد، لكن، وبعد اشتعال الثورة في الشوارع السوريّة وامتدادها على طول البلاد وعرضها، تمّ كسر هذه القاعدة وخرجت السينما السوريّة من تحت عباءة محمد الأحمد، مدير المؤسسة العامة للسينما منذ عام ٢٠٠٠ وحتى الآن، وفُتح الباب أمام المخرجين السوريين لإنتاج أفلامهم وتجاربهم وعرضها على جمهور جديد وعريض في مختلف مدن العالم. اهتمام العالم بما يحدث في سوريا ورغبتهم في فهم ما يجري في تلك البلاد من أحداث دفع الناس للإقبال على مشاهدة السينما السوريّة بمختلف أنواعها الوثائقيّة والروائيّة والتجريبيّة، فكانت الصالات تعج بالمشاهدين من مختلف الجنسيات في كثير من مدن العالم، بعضها كان يعرض أفلاماً سوريّة للمرة الأولى. حصلت السينما السوريّة على جوائز عديدة، منها العالميّة، قد يؤخذ على بعضها أنّها جوائز سياسيّة منحت لأسباب سياسيّة غير فنيّة لكن هذا لا يمنع من وجود جوائز حازت عليها أفلام سوريّة عن جدارة واستحقاق. في الحديث عن السينما السوريّة يمكننا الحديث اليوم، أي السينما السوريّة المنتجة بعد آذار ٢٠١١، عن خطين سينمائيين واضحين ومنفصلين يرسمان المشهد السينمائي السوري. وهما خطان يكادان لا يتلاقيان، لا في الأطر ولا في الأدوات ولا في مقاربة الحدث السوري إلّا أنّها يتشاركان في أخذ ما يجري في سوريا من ثورة وحرب كقاعدة انطلاق لقصص وحكايا هذه الأفلام. الخط السينمائي الأول، هو الخط الذي يدعم النظام ويروّج له ويغلب عليه الطابع الروائي. أبطال هذا الخط هما المخرج نجدة إسماعيل أنزور، الذي اشتغل كثيرًا في إخراج المسلسلات التلفزيونيّة، والمخرج جود سعيد، والذي يكنّى في الأوساط الفنيّة بخليفة عبد اللطيف عبد الحميد في المؤسسة السينمائيّة، وهما اللذان يعلنان دعمهما للنظام بشكل كامل. يمكن تصنيف أفلامهم كأفلام تدعم بروباغندا نظام الأسد وروايته بعدم وجود ثورة في البلاد وبأنّه يحارب مجموعات إرهابية مسلحة. الخط السينمائي الثاني، والذي سنحاول البحث فيه بصورة مجملة في هذه المقالة، على أمل أن نعود لبعض هذه الأفلام بالتفصيل في مقالات لاحقة إذ لا يمكننا في هذه العجالة مراجعة جميع الأفلام السوريّة، وهي غزيرة مقارنة بسنوات ما قبل ٢٠١١، كما لا يمكننا حصر معظم التفاصيل المتعلقة بهذه الأفلام، هو الخط المعارض للنظام الذي يجاهر بدعم الثورة السوريّة. أفلام هذا الخط يغلب عليها الطابع الوثائقي والتسجيلي. كما وجدت بعض الأفلام الروائيّة كفيلم الملك لا يموت وبعض الأفلام التجريبية كفيلم يمان وملامح دمشقية والبحث عن كيارستامي.

هنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى الأفلام السينمائيّة التي أنتجت من قبل مجموعة أبو نظارة ومجموعة بدايات وهي أفلام قصيرة، بعضها طويل، مختلفة الأنماط السينمائيّة منها الوثائقي ومنها التجريبي. بعض الأفلام الوثائقيّة المنتجة خلال هذه الفترة كانت تلاحق قصص المدن في الفترة التي تلت قيام الثورة، أيّ أنّ المكان كان البطل المطلق في حكاية الفيلم. بعض هذه الأفلام أنتجت ضمن مشروع حكاية ما انحكت هذه الأفلام كانت تتحدث عن مدن “منسيّة” في التغطيّة الإعلاميّة للثورة السوريّة كأفلام عن مدن بانياس ودير الزور والسلمية والقامشلي، مع ضرورة الانتباه إلى ملاحظة هامة ينبغي أخذها بعين الاعتبار وهو أنّنا بتنا، بعد قيام الثورة، نشاهدُ أفلامًا بلغات سوريّة أخرى غير العربيّة، مثل الكرديّة والأرمنيّة، مما يساعد الجمهور، السوري قبل غيره، على الانفتاح والتعرّف على المجتمعات السوريّة المختلفة.

لكن وفي الحالة العامة فإنّ الذاتيّة تغلب على معظم الأفلام الوثائقيّة السوريّة المنتجة بعد عام ٢٠١١، ففي فيلم العودة إلى حمص، الحاصل على جائزة مهرجان سندانس الكبرى لأفضل فيلم تسجيلي عالمي، يُشرك المخرج طلال ديركي نفسه بالفيلم ويتتبع قصة عبد الباسط الساروت الثائر في مدينة حمص. كانت ردود الأفعال كبيرة عقب عرض هذا الفيلم نظرًا لشهرته التي اتخذها نظرًا لتتبعه قصة أحد أهم الشخصيات التي ظهرت على الساحة السوريّة خلال الثورة. في فيلم ماء الفضة للمخرج أسامة محمد وسيماف بدرخان والحاصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان لندن السينمائي، تكون بدرخان هي الشخصيّة الرئيسيّة في معظم أجزاء الفيلم الذي يحاول أن يلتقط صورة لسوريا بعد آذار ٢٠١١. يمكن وصف الفيلم بالتحفة الفنية التي اشتغل عليها أسامة محمد باقتدار المخرجين الكبار.  فيلم الرقيب الخالد لزياد كلثوم يدوّن تفاصيل حياة المخرج الشخصيّة. وكذا الأمر في عدد من الأفلام الأخرى التي يكون فيها صانع الفيلم جزءًا رئيسيًا من الفيلم، يكبر دوره أو يصغر، مما يمكننا من تصنيف هذه الأفلام ضمن فئة الأفلام التسجيليّة الذاتيّة، كفيلم هووم لرأفت الزاقوت وفيلم منفى لدلير يوسف وفيلم حكايات حقيقية عن الحب والحياة والثورة لنضال حسن، هذا بدوره يلاحق قصص أخرى لكن في مستوى معين يعتمد الفيلم على قصة المخرج نفسه. ومثلها معظم الأفلام المنتجة والمدعومة من قبل مهرجان سوريا لأفلام الموبايل.

فرق العمل في هذه الأفلام هي قليلة العدد مقارنة بأفلام أخرى. بعض الأفلام اقتصر فريقها على شخصين أو ثلاثة وبعضها الآخر وصل إلى عشرة أشخاص كحد أقصى، وهذه من سمات السينما الذاتيّة على كلّ حال لكن في نفس الوقت يخبرنا هذا عن صعوبة تجميع فريق عمل والميزانيات القليلة لهذه الأفلام والمشكلات الكبيرة المترافقة مع صناعة سينما في بلد تحولت إلى خراب بفعل دكتاتوريّة عسكريّة وميلشيات متطرفة. بعض الأفلام افتقرت إلى الحكاية التي تسيّرها فاتخذت من الحدث السوري قبلة ومرجعًا وهذا يظهر هشاشتها ويدفعنا إلى السؤال التالي: بفرض أنّ ما جرى في سوريا لم يحدث أو بفرض انتهاء الأزمة السوريّة قريبًا هل سيكون بعض هؤلاء المخرجين قادرًا على صناعة فيلم جديد وإيجاد حكايات جديدة بعد أن يفقدوا “المادة الخام” التي يبنون عليها أفلامهم اليوم؟ الصورة في معظم أفلام “الخط الثاني” مهزوزة غير ثابتة والمعالم فيها غير دقيقة وغير واضحة، إذ أنّ معظم مشاهد هذه الأفلام مصورة بكاميرات الهواتف المحمولة أو بكاميرات الفيديو المحمولة الصغيرة، والسبب في ذلك بالطبع هو الحصار المفروض من قبل السلطة السوريّة على الصورة. النظام الذي قتل واعتقل مخرجين سوريين كمثلهم لا حصرهم المخرج تامر العوام والمخرج الشاب باسل شحادة صاحب أفلام هدية صباح السبت وأمراء النحل. بسبب هذا الحصار كانت كاميرات الموبايل والكاميرات الصغيرة هي حلول للمخرجين من الخروج من مأزق المعدات السينمائيّة الكبيرة وصعبة النقل. هذه الكاميرات أكسبت الأفلام ميزة الصور المهتزة الدالة على الفوضى والقلق والخوف والرعب. كذلك كانت الصورة تحمل الخراب الكبير والدمار غير المعقول في كثير من المشاهد كنقل حيّ لصورة بلاد دُمّرت. كثير من الأفلام اعتمد على مقاطع من يوتيوب حمّلها ناشطون على شبكة الأنترنت كما اعتمدت بعض الأفلام على قياسات الصورة الصغيرة بسبب دقة الكاميرات المنخفضة، والتي تعذّر رؤية التفاصيل إذا ما تمّ تكبير الصورة. كما وُجدت بعض الأفلام التي تعتمد على الصورة المربعة في عرض الأفلام وهو أمر غير معتاد في السينما السوريّة، وهذه إشارة أخرى على جنوح المخرجين السوريين إلى التوّجه نحو أنماط سينمائية جديدة والتجريب بأشكال جديدة، حتى على صعيد قياسات الصورة. علّة العلل في السينما السوريّة منذ وقت قديم حتى اليوم هو عدم الاهتمام بالصوت. إذ يكاد المشاهد في بعض الأفلام أن لا يفهم الحوارات والأحاديث. في فيلم منازل بلا أبواب للمخرج آفو كابرئليان، مثلًا، لا يفهم المشاهد معظم الكلام في الفيلم ولولا الترجمة في أسفل الشاشة لفقد المشاهد، حتى المشاهد الأرمني والعربي وهما لغتا الفيلم الأساسيتان، معظم تفاصيل الفيلم.

كذا الأمر في معظم الأفلام السوريّة المُنتجة مؤخرًا، وقد يرجع الأمر لضعف الميزانيات المخصّصة لإنتاج الأفلام لكن هذا لا ينفي عدم الاهتمام الواضح بمجال الصوت. وكما أسلفنا الذكر فالأمر قديم ويمكن معرفة ذلك بالرجوع إلى الأفلام السورية المنتجة قبل ٢٠١١. لا بدّ لنا الوقوف، ولو في عجالة، على ما يقدّمه التوأم ملص. فهذان الشابان يتميّزان بإنتاجهما الغزير وتجاربهم المتنوعة في المسرح والسينما وأفلام الإنترنت، قد يأخذ عليها ضعف بعض هذه التجارب في كثير من الجوانب، نتحدث هنا عن التجارب السينمائية على الأقل، لكن في المقابل يحسب لهما شجاعتهما في تجريب الأنماط والأنواع السينمائيّة المختلفة وقابليتهما للتطور وانفتاحهما على التجارب الجديدة. كما لا بدّ من التنويه إلى أعمال المخرج الفوز طنجور والمخرجات هالا محمد وسؤدد كعدان وهالة العبد الله. وهي في جلّها تجارب تستحق الوقوف عندها. السينما السوريّة كغيرها من السينمات تحتوي على أفلام ذات سويّة عالية وعلى أفلام رديئة. وكما قلنا سابقًا، لا يمكننا هنا الوقوف عند تفاصيل جميع الأفلام السوريّة التي تم إنتاجها بعد بدء الثورة في آذار ٢٠١١ وما سبق لم يكن سوى لمحة سريعة قد تقودنا إلى البحث مستقبلًا في صورة السينما السوريّة الحالية وتجارب مخرجيها المخضرمين والشباب على حد سواء. وفي النهاية لا يسعني سوى القول بأنّ الفيلم السوري الأهم والأمتع لم ينجز بعد، وبشكل شخصي، أحمل كبير الأمل في صدري بمستقبل سينمائي سوري مبهر.


المصدر