الزندقة (مفهومها – وشقَّاها: السياسي والاجتماعي)


جيرون

يُختلف في أصل هذه الكلمة لغةً واصطلاحًا، على الرغم من شيوعها وتعدد فهمها في عقول الناس. فيُختلف في أصلها لُغةً، فثمة من يقول” إن أصلها إغريقي”، وآخرون يقولون: “إنها ذات أصل آرامي”، وبعضهم يقول “إنها من أصل فارسي معرب عن (زنديك)”، والرأي الأخير هو الأقرب إلى الصواب؛ إذ كانت الكلمة تطلق من الزردشتيين على من يعتنق الديانة المانوية بوصفه خارجًا من الزردشتية، ملحدًا لا يؤمن بالدين الحق، وفقَ اعتقادهم.

أما اصطلاحًا بعد نقلها إلى العربية بلفظة “زنديق”، فبعضهم يرى أن الزنادقة هم المانويون والمزدكيون وغيرهم من الديانات الفارسية، ويستندون في ذلك إلى وصية المهدي لابنه الهادي التي قال له فيها: “يا بني إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة- يعني أصحاب ماني- فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا … ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات …إلخ”. لكن تطور مدلول الكلمة حتى شملت كل الملحدين والمتشككين في الدين. إلا أن للكلمة وجهًا آخرَ غير هذا، فقد كانت كلمة تطلق على الماجن، ما يحمل معنى التهتك، والتظرف بالقول كما هو الحال عند أبي نُواس وبشار بن برد.

مع قدوم الدولة العباسية والانفتاح الفكري في ظلالها، وانتشار الفلسفات الجدلية والعلوم التجريبية، ونهضة العقل، انتشرت الزندقة وخرجت مجموعة من الناس اتخذت منها وسيلةً للعبث، ولِبَثّ الشكوك في عقول الناس، واللهو الفكري، ووسيلةً من وسائل التظرف وحسن المجالسة والمدامة، ودلالةً على الرقي الثقافي والاجتماعي، فكان ذلك تجسيدًا للسبب الاجتماعي الباعث لنمو الزندقة في العصر العباسي. أما السبب السياسي، وهو السبب الرئيس في انتشارها، يرى مفكرون أن بعض الفرس رأى أن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، أيْ: من يد عربية إلى أخرى عربية، لم يرضِ مطمحهم في أن تكون الكلمة فارسية في مظهرها وحقيقتها، فبدؤوا ينشرون المانوية والمزدكية، ظاهرًا إن أمكن أو خفية إن لم يمكن، في محاولة منهم لهدم سلطان الإسلام، وهذا ما يراه الجاحظ في كتابه “الحيوان”.

وحارب العباسيون الزنادقة وقتلوا من ثبتت عليه التهمة، ونصَّـبوا العلماء لمجادلتهم ونقض شبهاتهم.

أما الزندقة في الشعر فكان لها شأن آخر يتمثل بالزندقة الاجتماعية المتجسدة بوسائل التظرف وحسن المجالسة والمنادمة، والانطلاق من قيود المجتمع، فامتلأ شعر معظم شعراء ذاك العصر بهذا النوع من الزندقة، وعلى رأسهم أبو نواس وبشار بن برد وأبو دلامة…إلخ

حتى أن الخلفاء في ذاك العصر كانوا يُسرون بهذا النوع من الزندقة والمجون ويطربون له، ويطلبون الزيادة منه.




المصدر