عن سورية وجدل (ديالكتيك) هيغل


حمزة رستناوي

أوّلًا – تحتل الفكرة مكانًا مركزيًا في الفلسفة الهيغلية، والفكرة تكون فارغة غير ذات معنى إذا جرّدناها من صلاتها وعلاقاتها وتشابهاتها واختلافاتها، فالثورة السورية مثلًا سوف تكون فارغة، ولا يمكن عقلها إذا جُرّدت من السلطة السورية والعلاقة معها، وكذلك؛ لا يمكن تجريد الثورة السورية من سياق الثورات الأخرى للربيع العربي في تشابهاتها واختلافاتها معها.

الكلي هو الحقيقي بالنسبة إلى هيغل، ولا يوجد الجزئي إلا من خلال الكلّ والكلي، وسنعرض لمثال يفيد في ذلك؛ فعندما نطرح سمة العنف في الثورة السورية، سيكون طرحنا منقوصًا وغير ذي معنى ما لم نقم بعقلها ربطاً بعنف السلطة السورية، والمجتمع/ الدولة السورية.

يرى هيغل أنّ التناقض هو الصفة الأهم للفكرة “إن كل حالة لفكرة أو شيء، وكل رأي وكل موقف في العالم يؤدي إلى موقف معارض له، وبعدئذ يتحد المعارض أو المضاد معه لتشكيل كُلٍّ أعلى[1] وهذا هو المنطق أو الجدل (الديالكتيك) الهيغلي.. وهو منطق حركي يُحاول تفسير التطور التاريخي بما يشمل كل فكرة، وليست الأفكار فقط هي موضوع الجدل (الديالكتيك) الهيغلي، بل إن الأشياء نفسها خاضعة لذلك “فحركة الأفكار هي نفسها حركة الأشياء. إذ يكمن في كل واحدة منها التطور والتسلسل نفسيهما من وحده إلى تعارض ومن تعارض إلى وحدة، إذ الأفكار والكون يتبعان القانون نفسه، والمنطق والميتافيزيقيا أمر واحد[2].

لنأخذ مثلًا يفضح تهافت الجدل (الديالكتيك) الهيغلي سلطة الاستبداد تنتج أو تؤدي إلى سلطة الحرية، وفي النهاية نحصل على تركيب سلطة من الاستبداد والحرية يتجاوز كلاهما في تطوّر تاريخي صاعد! ماذا لو انتصرت سلطة الحرية (الثورة) على سلطة الاستبداد، ومن ثمّ تحوّلتْ هذه بدورها إلى سلطة استبداد بديلة قد تكون أكثر وحشيّة من سابقتها، في حركة نكوص تاريخي وليس تطورًا؟!  الجدل (الديالكتيك) الهيغلي مسرحه التاريخ، وليس الأفكار فحسب، لكن ربطًا بمثالنا السابق ما معيار تصنيف قوى ما بكونها تمثّل الحرية أو الاستبداد أو الثورة أو الشعب؟ هل توجد حدود فاصلة تمامًا في الواقع تتوافق مع إسقاطات كهذه لنظريّة هيغل في الجدل (الديالكتيك)؟

لنطبق الأنموذج الهيغلي في الحالة السورية مثلًا، السلطة الحاكمة تُنتج أو تؤدي إلى معارضتها.. وفي النهاية؛ نحصل على وحدة السلطة والمعارضة في صيغة جديدة تتجاوز كلاهما! ولكن ماذا لو انتهى صراع السلطة والمعارضة إلى حرب أهلية مزمنة أو تفتيت الدولة؟! ولم نحصل على تركيب جديد يتجاوز كليهما؟! ماذا لو انتهى صراع السلطة والمعارضة، أو صراع السلطة والثورة باحتلال أو احتلالات خارجية تُنهي السيادة الوطنية، وتُطيح بالسلطة والمعارضة مثلًا، أو تُعيد تركيب الخارطة السياسية في مسرح التاريخ؟! وهنا؛ يظهر اعتراض قد يبدو وجيهًا، إن مِصداق الجدل (الديالكتيك) الهيغلي لا يكون خلال سنة أو بضع سنوات، ولكنّه يحتاج إلى مدة زمنية طويلة ليتسنى لنا الحكم؟!

وفي ذلك نقول بأنّ، هذا يحيل النبوءات الهيغلية إلى المستقبل، يحيلها إلى افتراضات غير قابلة للتحقق كونها مفتوحة الزمن، وهنا تظهر صوابيه انتقادات “الوضعية المنطقية” للفلسفات السابقة عليها بما يشمل الجدل (الديالكتيك) الهيغلي، وللمفارقة أيضًا؛ فإنّ الجدل (الديالكتيك) الهيغلي نفسه لا يجد نماذج مُقنعه لتمثيله في أوربا نفسها وألمانيا، في عقب وفاة هيغل والحربين العالميتين!

ثانيًا – تطبيق الجدل (الديالكتيك) الهيغلي في المثال السوري

سنعرض الآن نقديًا لمحاولة تطبيق الجدل (الديالكتيك) الهيغلي على الثورة السورية في مثال مخصوص، إذ نشر علي فارق مقالًا/ دراسة بعنوان “ديالكتيك هيغل والثورة السورية”[3] يُطبّق فيه منهج الجدل “الهيغلي” في مراحله الثلاثة (الطروحة – النفي –  نفي النفي) على ظاهرة “أسلوب عمل وحراك الثورة السورية العام”، ويُورد:

“يُمكننا، وبافتراض أن المرحلة السلمية كانت تشكل “الطروحة”، والمقاومة العسكرية المسلحة شكلت “النفي”، فعلى ما تنفتح آفاق “التركيب” أو “التجاوز” الذي سنحصل عليه، فيما لو حاولنا نفي النفي ذاك، أي نفي منطق السلاح والنشاط العسكري وإنهاؤهما مستقبلاً، هل يمكننا بناء مجتمعٍ ودولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ على أنقاض الإقطاعيات العسكرية، وأشباح الإمارات الظلامية القائمة حاليًا[4].

التعقيب:

ليستْ القضية غياب أو وجود أو توسط العنف في المراحل المختلفة لصيرورة الحدث، و لكن القضية هي أشكال وصيغ وتوظيف حضور العنف -أو إمكانات العنف- في صيغ مختلفة، أكثر أو أقل، ربطًا بالصيغ والشكل اللغوي أو السياسي أو النفسي أو العسكري.

– لا توجد حتمية قانونية تشي بتحول طروحة (الطور السلمي) إلى نفي (الطور العسكري)؛ فعديد من الثورات انتصر في طور الثورات السلمي. وكذلك لا حتمية قانونية تشي بتحوّل نفي (طور عسكري) إلى نفي النفي (دولة ديمقراطية)؛ حتّى وإن كان طال رهاننا في المستقبل.. فقد ينتهي بنا المطاف إلى استعادة الديكتاتورية لسطوتها، أو توليد ديكتاتورية جديدة، أو حضور دولة فاشلة، أو احتلال دولة أخرى، ربّما موت دولة وولادة كيانات سياسية أخرى… إلخ.

تُقدّم مقالة/ دراسة ” ديالكتيك هيغل والثورة السورية “مثالًا آخر على منهج الجدل (الديالكتيك) “الهيغلي” في ظاهرة “تشكيلات المعارضة السياسية والثورية”؛ إذ تورد:

“إذا ما نظرنا إلى تشكيل المجلس الوطني ككيانٍ سياسيٍ معارضٍ كـ “أطروحة”، وإنشاء الائتلاف الوطني لاحقاً كـ “نفيٍ” لتلك الأطروحة، فهل من الممكن أن يفضي الكيان المعارض الموعود الجديد الذي سمعنا عن قرب إطلاقه، والذي قد يمكن اعتباره “تجاوزاً”، إلى الوصول إلى الجسم السياسي المطلوب لقيادة الثورة، وتحقيق أهدافها، وهل سينجز هذا الكيان لاحقاً عملية وضع الأسس النظرية، والدستورية، والمؤسساتية، للدولة والمجتمع السوريين الجديدين؟[5].

التعقيب:

يمكننا القول هنا بتنميط الواقع استنادًا إلى فهم إسقاطي للجدل (الديالكتيك) الهيغلي.

– لا توجد حالة نفي ما بين المجلس الوطني والائتلاف الوطني لاحقًا، لقد جاء تشكيل الائتلاف توسيعًا للمجلس الوطني، وتسوية ما بين القوى السورية والقوى الإقليمية والدولية الداعمة للثورة/ المعارضة السورية وليس انقلابًا عليه.. إذ استمر الإخوان المسلمون وحزب الشعب (ذو الأصول الماركسية) وشخصيات من إعلان دمشق مؤثرين ضمن كلا الكيانين السياسيين. أمّا على مستوى الرؤية السياسية لا خلاف مهم يصل إلى درجة النفي بينهما، والرؤية التي قدّمها المجلس الوطني والائتلاف الوطني في العموم اتّسمت بالتوافق الصوري، لقد اتّسم الأداء السياسي لكليهما بالضعف والترهل ونقص الانسجام، ولم تعترف كثير من قوى الثورة والمعارضة في الداخل السوري بشرعية الكيانين السابقين على كل حال.

– إن زعم تجاوز الجسم السياسي للائتلاف الوطني باتجاه تشكيل يضع أسس نظرية و دستورية للدولة والمجتمع السوري، هذا يتدخّل فيه بقوة القوى والعوامل الأخرى المؤثرة في الصراع السوري، فلا يمكن هنا إهمال تأثير السلطة السورية الحاكمة (النظام الأسدي) والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الصراع، كما لا يمكن إهمال تأثير فصائل السلفية الجهادية على مجريات الوضع العسكري والسياسي!

عندما نتكلم عن النفي أو نفي النفي، علينا تحديد معايير النفي ومعايير نفي النفي، وتدقيق مدى توافقها مع الطروحة والفكرة.

ثالثًا – الجوهر الهيغلي: الجوهر في الهيغلية هو الفكرة الكلّية التي هي موضوع الفلسفة، ويُعلي هيغل من شأن الفكرة الكلّية أو الروح؛ لتصبح عقل الكون وعلته “إن العقل هو جوهر الكون، إن تصميم الكون عقلي إطلاقًا”[6] فالجوهر عند هيغل، مثلما هو عند أرسطو، وثيق الصلة بالكلّي غير المُتعيّن “الجوهري بوصفه لا متناهيًا، إنه -بوضوح- ما لا يحدّه حدّ في ما ينتسب إليه، وإلا فإنه سيكون محصورًا فلا يكون الجوهر حقًا”[7]. بالمقارنة ما بين الجوهر الأرسطي والجوهر الهيغلي نجد فروقات على صعيد التغير وعلى صعيد الضبط العلمي، فإذا كانت مقولات الزمان والفعل والانفعال هي مجرد أعراض للجوهر -في الفلسفة الأرسطية- فإنّ الحركة والتغير هي في صميم تعريف الفكرة أو الجوهر عند هيغل، وإذا كان مفهوم الجوهر عند أرسطو بسيطًا فإنّ مفهوم الجوهر عند هيغل أكثر تعقيدًا وأقلّ ضبطًا، بحيث يبدو الجوهر كلّي القدرة وموضوعًا للإيمان على طريقة الخطابات الغنوصيّة في أحيان كثيرة ، لننظر في هذه العبارة الهيغلية مثلًا [الروح يريد أن يعرّف نفسه بنفسه] وسأثبت اقتباسًا من كتابه [محاضرات في تاريخ الفلسفة] توضح ذلك: “إن جوهر الكون المتخفي والمنغلق بادئ الأمر لا يملك القوة الكامنة لمقاومة شجاعة المعرفة، فلا بدّ للجوهر من الانفتاح أمامها ومن عرض غناه وأعماقه أمامها”[8].

الهوامش:

[1] قصة الفلسفة، ص380.

[2] محاضرات في تاريخ الفلسفة، محاضرات في تاريخ الفلسفة ، هيغل، ترجمة خليل احمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت 2002م ط2، ، ص50.

[3] محاضرات في تاريخ الفلسفة ، مرجع سابق، ص15.

[4] قصة الفلسفة، ول ديورانت ،ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة 1988م، ص 380.

[5] ديالكتيك هيغل والثورة السورية ، علي فاروق، موقع زمان الوصل ،تاريخ 13-6-2014 ، الرابط https://www.zamanalwsl.net/news/50756.html

[6] ديالكتيك هيغل والثورة السورية، مرجع سابق.

[7] ديالكتيك هيغل والثورة السورية، مرجع سابق.

[8] محاضرات في تاريخ الفلسفة ، مرجع سابق، ص15.




المصدر