أحمد عمر يكتب: الرئيس وحوريات برلمان الصيف


أحمد عمر

قال فرانشيسكو: وافرحتاه، وقعتْ قرعة مقابلة سيادة الرئيس الكريمة عليّ!
كنا تسعة نازحين من أهل الشام حول المائدة، وعاشرنا هو المستعرب خوسيه فرانشيسكو، وكان قد أسّس جمعية، تدعو الحكومة الإسبانية إلى ضرورة الإقرار بأن مؤسسي العاصمة الإسبانية مجريط هم العرب، وهي من مقطعين: “مجرى” و”يط”، المقطع الأول عربي، والثاني لاتيني، ويعني “الكثرة”. مدريد تعني “غزيرة الماء”.
كان فرانشيسكو، قد اكتفى بطعام واحد من أطعمة المائدة الشامية، هو متبّل الباذنجان، عبد الرحمن فرانشيسكو يتقن العربية، وقد استعرب، ويستشهد في حديثه بالقرآن الكريم والحديث الشريف، ويحبُّ الشعر العربي، وشعر صديقه قباني خاصة، فقد كان جاره في مدريد عندما كان سفيراً.
سأل زميلنا روحي سؤالاً يكسر به جوزة دهشته الصلبة، من تحوّل أعلام كبار في الفلسفة والفن والشعر أبواقاً لزعيم أحمق عبيط، كأنّ رأسه زبيبة؟
فقال ضيفنا المستعرب: سأبيّن لكم ذلك من تجربة حقيقية.
كنتُ من وجوه الحركة الثورية في إقليم الغورتان، وهو أقليم إسباني مثل أقاليم الباسك، يبغي الانفصال، وكان لنا زعيم قومي غورتاني لقبه “هو كل شيء” يشبه لقب الزعيم الفيتنامي “هو شي مِنه”، وفي اللفظ العربي المرح “هو شيءٌ منهُ”، لكنه في الحقيقة زعيم لا أرى له مثيلاً بين الزعماء العرب.
هو في الطيش والخفة وحبِّ الاستعراض، أقرب إلى القذافي. السيسي ليس سوى طرفة وفقاعة ستنفجر بسرعة، أما حافظ الأسد، فكان زعيماً غريباً في قدرته على الموازنة بين الحضور بالقسوة، والغياب بالتأله. أظن أن الشعب الغورتاني أقرب إلى الشعب الكوري في تقديس الزعماء، لكن من غير ترهيب أو شرطة، هو شعب وثني بالغريزة أو بالتقليد الأعمى، وكان لـ ” هو كل شيء” ألقاب كثيرة، أشهرها “الأب الأصلي” أو “الأب الأساسي”، ولم يكن له مواهب سوى في الثرثرة مثل كاسترو، كان يستطيع أن يخطب لساعات، ويهرف بكلام لا معنى له. للزعيم كتاب وحيد، كبير الحجم، من خمسمائة صفحة، عنوانه “فهرست الحضارة والنضارة”، لم يقرأه أحد كاملاً، لأنه بلا معنى، علاك، هراء، يتحدث عن العمال والفلاحين والبروليتاريا في العصر الحجري، ويسرد فيه تاريخ الخليقة مثل ول ديورانت، من غير إنصاف تاريخي. وكان قد أرسل للكومونات يطلب ستة ملايين بيزيتا، وشعب الغورتان شعب فقير، بل الإسبان كلهم كانوا كذلك في عهد الدكتاتور فرانكو. استنفرنا خفافاً وثقالاً نتسول له النقود من الجمعيات والكومونات والكنائس، واستطعنا بعد شهر، وهي المدة التي حددتها لنا القيادات في القرى والدساكر والقصبات، جمعنا 4562 بيزيتا، تم انتزاعها من أفواه الأيتام والجوعى، بعض النساء بعن حليّهن، وبعضهم باع دمه، بل إن أحد عشّاق الرئيس باع كليته، وأهدى ثمنها للرئيس. اجتمعنا لنصطفي المندوب المحظوظ المبارك، الذي سيلتقي الرئيس ويتعهد الأمانة في “مجريط”.
الزعيم – ونحن نسميه بالرئيس استبشاراً بالدولة- كان متخفياً في إحدى ضواحي مجريط، في مكان سري، ولم يسبق لأحد أن رآه سوى في الصور.
استقر القرار عليّ بعد تصويت سري، وصراع بين كباش، فرِحتُ وخفتُ، وهِبت الأمر، فالأمانة كبيرة، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. كنت قلقاً من حمل هذا المبلغ، والعبور به بين المدن، لكني استسلمت للمهمة المقدسة.
كنت واحداً من الناشطين في الحزب، وأكثر من يحفظ الأقوال من كتاب “رأس المال”، وكتاب “ما العمل”، وكتاب “خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء”، ولم يكن في بالي سوى أمر واحد، هو أنني سألتقي الرئيس “هو كل شيء”، لقد صرنا نقسم برأسه، بعد أن كنا نقسم بالمسيح، أو بأسماء القديسين. وكنت شاباً جلداً، لكني قليل الحظ بالوسامة، خشن، تنفر النساء مني لغلظتي ودمامتي، وجلافتي اليسارية التروتسكية، المخلوطة بالغورتانية الريفية الرعوية. اتصلوا بالقيادات في مجريط ليدلوني على خريطة الوصول، وسألتُ عن كلمة السر، فجاءتني في ورقة مكتوبة، وكانت كلمة غريبة هي: “أست العنزة”، أحرقتها حسب التعليمات. هذه شتيمة شائعة لدى شعب الغورتان، شعبنا ظريف، يعيش على النكتة والخبز، ونوع من الجبنة يشبه الشنكليش السوري. سيفتح لي الباب أحد الرفاق، فأقول له بدلاً من افتح يا سمسم: “أست العنزة”، فيأخذني إلى الرئيس! حاولت أن أراجعهم، أن أطلب كلمة سر محترمة، مثل: “الجبل الأشم، بلادي الحبيبة، الكرامة والاستقلال…”، لكن كلمات السرِّ الطيبة، الذكية، شعبيةٌ، عاديةٌ، ومن القول السائر. اللغة الغورتانية لغة فقيرة، لعلها من أفقر لغات الأرض، شفاهية، ليس فيها سوى بعض المسجوعات، ويستحيل كتابة الفلسفة بها. فحكايات الأطفال التي نسردها لهم قبل النوم، كنا نستعير لها المفردات من الإسبانية. لكنَّ شعب الغورتان شعب مغرور، والغرور علامة الجهل. شعبنا فقير بالتاريخ وباللغة، يعوِّض نقص القومية المكتسب بالريش والانتفاخ والاستعلاء القومي، ويباهي بلغته، ويدّعي أنها أفضل لغات الأرض، وهو شعب طيب، ساذج، يحق له العيش بكرامة، مثل شعوب العالم، وهو يطمح إلى الحكم الذاتي، نريد أن يصير “هو كل شيء” رئيسنا إلى الأبد، ثم يولي ابنه مكانه، وهكذا… مرّة قلنا لأحد القيادات، وكان قد سمّى ابنه اسماً ثورياً هو: “الروح الحارقة”.
تخيل يا أبا الروح الحارقة، لو أن “هو كل شيء” زار بلدتنا، واختارك مضيفاً، فماذا ستقدم له من قِرى في هذه الليلة المباركة؟
قال: “هو كل شيء” يزورني أنا! أقسم برأسه، سأذبح له الروح الحارقة الغالي طعاماً، وأجعل من دمه له إداماً.
قال الروح الحارقة: أقسم برأس “هو كل شيء” سأقدم عنقي للأب الأصلي. فضحكنا لهذه الوطنية الرفيعة والمفارقة اللفظية بين الأبوين: السياسي والسلالي. وأثنينا عليه، وأظنًّ أن أي رفيق من الرفاق كان سيضحي بابنه من أجل الرئيس. العشاء الأخير للمسيح سيكون ذكرى من التاريخ مقارنة بوليمة الرئيس. المسيح أسطورة، أما “هو كل شيء” فواقع ملموس ومشاهد ومعاش. سيبني لنا وطناً، هو يعمل من أجل الحكم الذاتي، لكن في المغرب، وليس في إسبانيا. كنا نطمح إلى الاستقلال، لكنه أبعد نظراً، لعله واقعي، كنا نريد أباً لا وطنا.. كنا أيتاماً أولي بؤس شديد.
المهم أنهم أعدّوا لي رزم الأموال، وكانت أوراقاً مهترئة وقديمة، وأكثرها كان مدخراً تحت البلاط، وتفوح منها رائحة تعب الفلاحين وعرق العمال. وضعوها في جعبة فلاحية متسخة لا تلفت الأنظار، ونكّروني في هيئة فلاح، وقالوا لي: إن أعواناً سيعرفونني، وسيسهّلون مهمتي، وأوصوني بأني إذا ما تعرضت لمأزق، فلا ضرورة للاستغاثة بالمار جرجس، بل طلبوا مني أن أذكر للبوليس كلمتي التعويذة: “أست العنزة”! قلت ولكن هذه التعويذة للدخول إلى مغارة الرئيس؟ فقالوا: إنها الكلمة السحرية لكل المآزق، وفعلاً فقد شكّ بعض رجال البوليس، وفتشوني، فعثروا على المال، وسألوني عنه، فقلت لهم حسب الوصية: “أست العنزة”، فتركوني وشأني! فأحببت أست العنزة حباً جماً، وقلت: إني سأبوح للرفيقة دولسنيا بحبي، وأقول لها بعدعودتي: أست العنزة، وستحبني بها. وذهلت بتغلغل أعضاء حزبنا في الدولة الفرانكية، ولم أكن وقتها أدرك أنّ قيادة الحزب متواطئة مع الدكتاتور فرانكو. وصلت إلى العاصمة، ومشيت حتى أوفر أموال المهمة، مشيت عشرة كيلومترات، جعت وتعبت حتى وصلت إلى وكر ” الأب الأصلي”، ” هو كل شيء”، فخرج ذكر من ذكور الحزب بشاربه السميك، وسددّ بندقيته عليّ، فخلطتُ، وبدل أن أحييّه بتحية المساء، قلت له: “أست العنزة”.
هزّ رأسه، وأعطاني خريطة عليها عنوان أست العنزة، وكان العنوان الجديد على ساحل البحر في ماربيلا، والفصل صيف، والدنيا تغلي من الحر، كنتُ قد غرقتُ في العرق والغبار والتعب بعد سفر مدته ست عشرة ساعة في القطار، والتشبث بالجعبة الفلاحية التي يرقد فيها ما يقارب خمسة ملايين بيزيتا.
ركبت سيارة أجرة على حساب الشعب، يعني من أسفل الجعبة هذه المرة، سرقت الحزب، وخنت الأمانة، فقد كنت تعباً، وخائفاً من اللصوص، ونفحت السائق أُعطية بعد أن أوصلني إلى ساحل العنوان، كنت جائعاً، فقد صمتُ يوماً كاملاً. وجدت نفسي أمام فيلا فاخرة من الرخام، وحولها حرس وكلاب، تلفتُّ حولي، العنوان حسب الوصف، اقتربت من الباب، فرفع الحارس البندقية في وجهي، فتمتمتُ بالتعويذة: أست العنزة.
فأشار إلى الداخل.
دخلتُ وسرتُ في درب مفروش بالأشجار والأفياء الظليلة والعرائش، تلهو فيها أرانب، وتحلّقُ طيور، وجدتُ نفسي في الفردوس، فبعد مسافة غير قصيرة، كنتُ أمام بركة سباحة كبيرة، فيها مياه صافية تعكس أمواج الشمس، مياه ترى منها عظام البلاط، وتستطيع أن تقرأ كتاب “ما العمل” تحت الماء، وعلى ضفاف البركة حوريات عاريات من غير أوراق توت، عاريات تماماً.! ولم أكن قد رأيت امرأة عارية في حياتي، ولو لم أكن مناضلاً حقيقياً لأغمي عليّ من نواهل العري. رأيت أول مرة في حياتي الجافة الأعشاش تزقزق بدلاً من الطيور على أجساد العاريات، والفواكه تتدلى من أجسادهن بدلاً من الأشجار، قلت لأول حورية عارية وأنا أتجنب النظر إلى عش الصقر، كما يليق بمناضل يطمح إلى وطن مستقل يرفرف فوقه علمنا فاقع الألوان: أست العنزة.
قالت: ماذا تقول؟!
كرّرتُ: أست العنزة
ضحكتْ، ونادتْ رفيقات الكفاح والتوت، فاجتمعن على صاحب الجعبة المتسخة ضاحكات، فاحمرّ وجهي من الخجل. وقلتُ لعلي أخطأت العنوان، فهذا وكر دعارة، وليس عريناً لزعيم حركة ثورية انفصالية، منفصل عن شعبه؟
برز “الأب الأصلي” بعد أن سمع أصواتهن، وجلس على كرسي في الظل، وأشار إلي، فتقدمتُ منه غير مصدق أني أرى الرئيس بشحمه ولحمه، هذا هو الرئيس، هذا هو الأب الأصلي، هو كل شيء، زعيمنا الذي نقسم برأسه، والنجوم تدور حول رأسي من التعب والدهشة، وكأني في كابوس مقلوب، يبدو أنه كان ينتظرني، كان الأب الأصلي عارياً، لكن مع ورقة توت والحمد لله، كان يرتدي سروالاً ضيقاً قصيراً، بكّيني ذكور، فخجلت، ولم أعرف كيف أتصرف، خجلت منه أكثر من خجلي من الفاجرات العاريات، كنت أتوقع أن أجد الرئيس في كهف غارقاً في الكتب والخرائط، جالساً على صندوق ذخيرة، ويضع نظارة كعب الفنجان، أو في مخيم، وحوله المقاتلون، أغضيت ومددتُ يدي مصافحاً، فمدّ يده إلى الجعبة، وترك يمناي مخذولة، فسقطتْ حزينة ثكلى، متخبطة في ريشها، وكأنها أصيبت بست وثلاثين طعنة كالتي نالها يوليوس قيصر. جلس أمامي، وبقيتُ واقفاً، أحاول كفكفة هزيمتي، وأواري سوأة ذلي بورقة توت التهمها دود القزِّ. وأتمتم : حتى أنت يا بروتوس. بجلوسه برزتْ يمنى أنثييه من خلال السروال الضيق، انتبهت إلى أمر لا أستطيع أن أذكره، فنحن على المائدة، ولا أريد أن تفقدوا شهيتكم.. المهم أنه جلس يعدُّ المال ورقةً ورقةً، ثم ملَّ من العدّ، فسأل: كم المبلغ؟
قلت الآن سيكتشف أني اختلست مائة بيزيتا أجرة تاكسي، ولابد أنّ الرفاق أعلموه بالمبلغ، وقررتُ أن أكذب، فقلت 562 4 بيزيتا بالتمام والكمال. توكلت على الأخطاء الحسابية علّها تنقذني من ورطتي.
جاءت حسناء شقراء، عارية من غير ورقة توت، عارية مثل السيف المهند، عارية مثل سنان الرمح القاتل، وبدأتْ تمسح كتفيه، وتقبل رقبته، وتقبل وتدبر، وتكرّ وتفرّ، وهو بها غير مبال، فقلت في نفسي: أخيراً وجدت صفة من صفات البطولة والفحولة في الرئيس، فهو حصور ولا يبالي بحسناء عارية ينخلع القلب لعريها، تقول له: هيت لك، ويستعفف كأنه قديس، إنه لا يبالي بعوالي الرمح وهي منه نواهل، ما أشدّه، وما أشجعه، ذكّرني وهو بجانبها ، بوجهه القبيح وعينيه الغائرتين وشاربه السميك بقصة “الحسناء والوحش”.
نظر إليّ غاضباً، ووضع ساقاً على ساق، فبرزت يسرى أنثييه أيضاً متضامنة مع شقيقتها اليمنى، من خصاص السروال البكيني، وقال: أنا طلبتُ ستة ملايين؟
قلت: حضرة الأب الأصلي، سيادة “هو كل شيء”، شعبكم فقير، هذا ما استطاع الرفاق جمعه لكم، لقد باعوا ما فوقهم وما تحتهم، وأحد الرفاق باع كليته، وهم فقراء .. دمنا فداؤكم.
ولم يدعني أكمل مرافعتي، وأشار إليّ بأمر، فهمت بعد تدبر أنه يطردني!
سألت نفسي سؤال لينين: ما العمل؟
كنت أنتظر أن يدعوني إلى الغداء، أو أن يرافقني بنزهة، ونتذاكر في النضال، أن أخبره عن بطولاتي في الحزب، عن حبي له، عن تعبي في الطريق، عن أحلامي وأحلام الملايين برؤيته، عن ألبوم صوره في مكتبتي، أن يحكي لي بعض أسراره، فأتباهى بها أمام الرفاق والرفيقات، أن أحظى بصورة مع شخصه المقدس، لكن “بهدوم” وليس منتوفاً من الريش والتوت. لم يقل لي أست العنزة حتى: مع السلامة.
كانت خيبتي كبيرة لا يمكن تصورها، كان حرسه كلهم قشتاليون، ليس بينهم غوتاني واحد! اكتشفتُ خدعة كبرى، تعادل عمري وعمر أبي وسلالتي كلها، حالي حال آدم عندما طرد من الجنة، مشيتُ على حافة البركة بجوار العاريات خارجاً، على طريق الحرير الذي نسجه دود القزّ من ورق التوت، وأنا اشتهي أمراً شهوة شديدة.
خرق زميلنا روحي عباءة الصمت: كنت تشتهي أن تعبث بأحد الأعشاش، يا أستاذ عبد الرحمن فرانشيسكو؟
ران الصمت، وقلنا إن هذا الغلام الطائش النازح أفسد الحكاية، وأساء إلى المستعرب التسعيني الوقور.
ردّ بهدوء: لا.. كنت أشتهي أن أرمي بنفسي في الماء، ثم أخرج نظيفاً وأنام في ثوب أبيض طاهر نوماً عميقاً.
تابع:
غادرتُ من غير أن أمتّع نظري بنظرة طويلة ، عطشى، صادية، ترتوي من بهجة الروض العاطر، غير خائف من أن أصاب بضربة الأنثى وهي أقوى من ضربة الشمس، وأتذكر قول الشاعر: وَمَن لَم يُرَوِّ رُمحَهُ مِن دَمِ العِدا…. إِذا اِشتَبَكَت سُمرُ القَنا بِالقَواضِبِ، وخرجت كالعصف المأكول، وحمدتُ في سري أن الرئيس لم ينتبه إلى سرقتي أجرة السيارة، ولم يراجع فيها القواعد، خرجتُ ومشيتُ على ساحل البحر جريحاً مهزوماً، ورميتُ بنفسي في الماء بكل ثيابي، عمّدت نفسي بالمياه المالحة تعميداً من نجاسة ” هو كل شيء”، خرجت، واستلقيت على الرمل، ونمتُ من فوري، كنت سعيداً بيدي التي تحررت من كابوس الجعبة الثقيلة، كانت قد تخشبت وصارت مثل مخلب عصفور ميت.
أرخيت يدي وروحي، ونمت جائعاً وأنا أغمض عيني على نجوم السماء. لقد نجحت في العهد، وحمل الأمانة، ناقصة مائة بيزيتا.
بعد سنوات، قرأت في الحديث الشريف أن الناس تحشر يوم القيامة حُفاة عُراة، لقد كانت مشاعري هي مشاعر يوم القيامة، كان قلبي قد مات.
عدتُ إلى البلدة مصعوقاً، فحزبنا يعمل مع فرانكو، حزبنا عميل، والأب الأصلي، مزيف، وليس أصلياً، طلع ابن عاهرة يقضي وقته في النضال مع القبحات. عدتُ، وقد قررتُ أن أعلن استقالتي من الحزب، وأفضح الرئيس، لكني عند عودتي تغيّر حالي، أخذني الرفاق بالأحضان، كانوا يتبركون بي، اكتشفتُ أني صرتُ مقدساً، لقد لمستُ الرئيس بيدي، فصرتُ مباركاً، ووجدتُ أن قول الحقيقة سيقتلني، ولن يصدقني أحد، اكتشفتُ أن الرئيس مناضل يكافح مثل فنانكم التشكيلي السوري المعارض بالنساء العاريات، صرتُ فتى الحزب، صار الفتى الغليظ بطل الحزب الوسيم، الرفيقات يواعدنني سراً وجهراً، قدمت لي دولسنيا التي كانت تنبذني كالأجرب وردة شرفها، فنزعت الوردة ورقةً ورقةً، بتلةً بتلةً، من غير أن أنطق بالتعويذة، ولفظتها كما تلفظ النواة، وكنت أخترع للرفيقات في ميادين الوثير عشرات القصص عن الرئيس، عن عناقه عناق الأصحاب، عن مشينا على ساحل البحر، عن قصص نضاله، عن بعض أسراره التي اختلقتها، وكتبتُ كتاباً عن بطولات الرئيس، وحبه للجمال، طُبع سراً، وبيعت منه عشرات آلاف النسخ، وصار لي المئات من الرفيقات العشيقات، لا يطلبن سوى ليلة واحدة يمنحنني فيها أعزّ ما يملكن، مع أن شعبنا شعب كاثوليكي تقيٌ، لكن المسيح يغفر الخطايا، لم تبق عذراء في الحزب إلا ونزعتُ وردتها، أو قبّلتها، لم يبقَ نهدٌ.. أسودٌ أو أبيضٌ، إلا زرعتُ بأرضه راياتي… لم تبق زاوية بجسم جميلة، إلّا ومرَّت فوقها عرباتي، فصّلتُ من جلد النساء عباءةً، وبنيتُ أهراماً من الحلماتِ.. كما قال صديقي المرحوم قباني، ورويت رُمحَي مِن دَمِ العِدا إِذا اِشتَبَكَت سُمرُ القَنا بِالقَواضِبِ.
اكتشفتُ أني قمت بتجارة لم يسبق لها مثيل، قدمتُ للزعيم ما يقارب خمسة ملايين بيزيتا، فمنحني مقابلها ثروة لا تقدر بالمال، صرت حكيم الكومونة، أحلُّ المشاكل، وأهدي العصاة والمجرمين، وصاحب لمسة سحرية، وكلمتي نافذة، أهداني الحزب شقة فاخرة، ووضع الأغنياء عزبهم وسياراتهم تحت تصرفي، منحني “هو كل شيء”: كل شيء، منحني منحةً لو أنفقتُ ما في الأرض ذهبا ما استطعت الوصول إليها.
ملأتُ غرفتي وشقتي ومكتبي بصور الرئيس، صار معبودي، هو ولي نعمتي، كان الأب الأصلي يعاشر العاهرات الإسبانيات، أما أنا فصرت بستاني حدائق النساء، أقطف وردات الشرف القواضب. أعترف لكم أن كثيراً من الرفاق قدّم لي صديقته في الحفلات، وهو يقول: أرجوك ارقص معها، باركها، وكان ذلك يعني، وقّع لها توقيع السلالة. وكنت أرى كثيراً من أولاد رفاقي في الحزب يشبهونني، كانوا أولادي، بذرتي زرعتها في أرحام كثيرات من رفيقات الحزب، لقد صرتُ الأب الأصلي لكثير من أبناء الرفاق الميامين، ثمة آية في القرآن الكريم تقول: ” الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..” والآية الكريمة بحيائها تضمر النساء بين المال والبنين، النساء محجبة في الآية الكريمة، فلا بنين من غير نساء، النساء النساء النساء… وحصلت على كل شيء، وعثرت على جواب سؤال لينين ما العمل؟ كل العمل على السرير الوثير، حتى كّلَّ القلم وتكسرت النصال على النصال، وأوهى قرنه الوعل. هناك أسطورة غورتانية تقول: إن الله خلق الإنسان بقرنين في البداية، ثم خلق من قرنه صخرة طرية اسمها الأنثى، توهي القرون قرناً فقرناً. عاش الأب الأصلي، ولي نعمتي، وله محبتي وفؤادي. عاش عاش عاش.
هزَّ عبد الرحمن فرانشيسكو رأسه، وقال: أرجو أن تكونوا قد وعيتم، سبب دفاع الفلاسفة والشعراء والمثقفين بألسنتهم وأنيابهم عن سيادة البغل، لابد أن لهم مرابح ومآرب ومصانع لعلهم يخلدون.
كان قد أتى على صحفة متبّل الباذنجان، فدفعنا إليه صحفة أخرى، ونحن نفكر في أستاه العنز الكثيرة في بلادنا المعطاء، ونقلب في رؤوسنا أسماء المفكرين والشعراء الذين يصنّمون الزعماء.. مؤكد أنهم نالوا بركةَ.. أست العنزة.
المصدر: المدن

أحمد عمر يكتب: الرئيس وحوريات برلمان الصيف على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -


أخبار سوريا 
ميكرو سيريا