الديموخوانية


غسان الجباعي

لم تقم ثورة السوريين كي تحقق مطالب جماعة منهم، سواء أكانت دينية أم مذهبية أم قومية، أم حتى حزبية ضيقة. حدث ذلك في انتفاضة الإخوان المسلمين الفئوية، أواخر السبعينيات، ولم يقف يومئذ مع تلك الانتفاضة، سوى بعض السنّة المتطرفين، ومن لف لفهم من الشرائح الطائفية المتعصبة دينيًا.
كان هدف الإخوان آنذاك إسقاط نظام “البعث العلوي العلماني” كما يصفونه دائمًا؛ متناسين أن هذا النظام هو نظام دكتاتوري استبدادي، تشارك فيه حثالة الطوائف كلها، بما في ذلك الطائفة السنية ذاتها، ممثلة بشريحة واسعة من (تجار وضباط ومشايخ ورجال دين ومؤسسات).
وقد كان لحرف الصراع في سورية من حامله الاجتماعي الاقتصادي إلى حامله الديني، ومن حامله المدني السلمي، إلى المسلح العنفي، أكبر الأثر في انعزال حركة الإخوان المسلمين وفشلها، وسحقها -أخيرًا- سحقًا وحشيًا في مدينة حماه، ما أدى إلى تدمير أحياء كاملة من المدينة، وقتل عشرات الآلاف من سكانها الأبرياء، مطلع الثمانينيات.
لم يخرج السوريون -يومئذ- في تظاهرات تشارك فيها الملايين وتشمل المحافظات جميعها، والمذاهب والطوائف والأديان والقوميات السورية، دون استثناء؛ مثلما حدث -أخيرًا- في آذار 2011؛ إذ أراد الشعب السوري لهذا التغير أن يكون وطنيًا مدنيًا شاملًا وديمقراطيًا.
هذه المرة لم يكن حزب الإخوان أو غيرهم، من حرض أو خطط أو قاد الثورة، هم الذين يطلقون على الشعب اسم أمّة، وعلى المواطنين اسم رعية، وعلى الوطن اسم البلاد الإسلامية، ويعدّون الدولة دولة الخلافة؛ لا يستطيعون القيام حتى بثورة سنيّة، كما نعتوها، فالسّنة لم يكونوا مضطهدين دون غيرهم؛ كي يثوروا ويطالبوا بحقوقهم الدينية، وجوامعهم ومدارسهم الكثيرة مفتوحة وعامرة، وهم يمارسون شعائرهم بحرية تامة، كما أنهم شركاء حقيقيون في “الحكم العلوي”، بحسب وصفهم.
هذه المرة، مثل كل مرة، كان الشعب السوري –بكل مكوناته- مضطهدًا من نظام استبدادي فاسد؛ سلبه الحرية والكرامة والعدالة -خلال أكثر من نصف قرن- فهب، كما هبت شعوب تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، ليطالبوا بالإصلاح الموعود، وبالحرية والكرامة التي حُرموا منها لعقود. وكانت ثورتهم -منذ البداية- ضد هذا النظام الأمني والأحكام العرفية والذل والفقر والفساد الذي استشرى في البلاد.
خرجوا -لأول مرة- للتظاهر السلمي في الشوارع والساحات، معبرين عن رغبتهم في التغيير. ومع أنهم لم يرفعوا شعار إسقاط النظام، جوبهوا بالرصاص والقنّاصات والرشاشات والقنابل، وسقط من كل الطوائف والأديان والقوميات شهداء وجرحى، يقدرون بالآلاف، واعتقل عدد كبير من الناشطين السلميين، وبقيت مظاهراتهم سلمية؛ لم نسمع خلالها شعارًا طائفيًا واحدًا، بل شعارات أكدت على الحرية والكرامة والسلمية والوحدة الوطنية: “الله سورية حرية وبس” و”سورية بدها حرية” و”واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.
لكن المجازر التي ارتُكبت بحقهم من النظام، جذرت مطالبهم؛ فرفعوا شعار إسقاطه، وطالبوا بإقامة نظام ديمقراطي تعددي عادل، مبني على سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان والمواطنة.
إن وحشية الحل الأمني وممارسة القمع غير المسبوق، واللعب على الورقتين: الطائفية والعرقية، واستعانة النظام بملالي إيران والميليشيات الطائفية، وانتشار الفوضى والتدخلات الخارجية بأجنداتها المختلفة، الإخوانية (السورية أولًا، والقطرية والتركية ثانيًا) والسلفية (السعودية والخليجية واللبنانية، ثالثًا ورابعًا وخامسًا…)، وتسويف الدول الغربية وتخليها عن الشعب السوري، وولادة ما سمي بالكتائب الجهادية المسلحة التي رفعت الشعارات والرايات الدينية، وظهور “داعش” وغيرها… سهلت على النظام تحقيق أهدافه في حرف الثورة عن مسارها، ومهدت لسرقة إنجازاتها، ودخولها في طور التجاذبات الإقليمية ومصالح الدول الكبرى. وقد لعب الإخوان المسلمون في كل هذا، دورًا خطِرًا، وبخاصة عندما راحوا يتغزلون مكرًا بالديمقراطية والدولة المدنية. ويتوجب عليهم اليوم أن يعتذروا من الشعب السوري على ما اقترفت أيديهم وضمائرهم.
إن الثورة بدأت عندما تمكن السوريون -أخيرًا- من اجتياز جدار الخوف، ولن يستطيع أحد إيقافها. قد تُسرق أو تنحرف عن مسارها، مثل كل الثورات الشعبية التي حدثت في التاريخ، بما في ذلك أم الثورات (الثورة الفرنسية 1789) التي استمرت عقودًا وتمكنت من إنجاز أهدافها. وثورتنا -أيضًا- سوف تستمر على الرغم من كل هذا العنف الهمجي اللاأخلاقي، والمناخ الدولي البراغماتي، والإقليمي الموبوء بالتخلف والتجاذب الطائفي الحاد.
إنها ثورة السوريين، وسوف تكون نقطة تحول في تاريخهم المعاصر، وعلامة فارقة في مسيرة حياتهم وحياة الشعوب المضطهدة، فهل نعبر من جوارها يائسين أو غير مكترثين!؟




المصدر