بلغة الفضاء كيف تغير المشهد.. ما جنته الحرب وخسره الاقتصاد


علاء كيلاني

عند الساعة 1.59 بتوقيت غرينتش من يوم 22 تموز/ يوليو 1987، انطلق رائد الفضاء السوري محمد فارس، برفقة رائدي الفضاء الروسيين: ألكسندر فيكتورنيكو وألكسندر ألكساندروف، على متن المكوك الفضائي Soyuz TM-3، باتجاه محطة “مير” الفضائية.

في دمشق، كان حافظ الأسد يتابع من قاعة خاصة، جرى ربطها عبر الأقمار الصناعية بالمحطة الفضائية الرئيسة، مجريات الرحلة التي كانت تجسد -وقتئذ- قمة التعاون السوري- السوفياتي (الاتحاد السوفياتي السابق).

التحم المكوك بالمحطة لاحقًا، وعبر حدث يعدّ الأول من نوعه سوريًا، استثمره الأسد الأب في تسجيل نقطة إيجابية لنظامه، بعد سلسلة من المجازر، ارتكبتها قواته وسط وشمال سورية، أشهرها مذبحة حماة عام 1982؛ لقي فيها أكثر من 40 ألف مدني حتفه بآلة عسكرية جهنمية، وسط تعتيم إعلامي محلي ودولي.

استغرقت رحلة محمد فارس الفضائية ثمانية أيام (7 أيام و23 ساعة و4 دقائق). وفي 30 تموز عاد إلى الأرض برفقة زميليه، بعد أن أجرى 13 تجربة علمية، حلّت -وفق تصريحات الروس- 180 مشكلة سورية، لكنها فشلت في تفكيك سياسة القبضة الحديدية لنظام كان يقود دولة بوليسية مرعبة.

منح تحليق “مير” فوق سماء سورية فرصة للأسد؛ كي يتحدث إلى رائد الفضاء محمد فارس مباشرة، في مكالمة جرى الإعداد لها بدقة، استمرت أكثر من خمس عشرة دقيقة، تابع السوريون تفاصيلها عبر شاشة التلفاز باهتمام. سأل الأسد: ماذا ترى وأنت على هذا الارتفاع الكبير؟ أجابه الفارس: إنني سعيد ومسرور جدًا، لأنني أرى بلدي الحبيب، أراه رائعًا جميلًا كما هو في الحقيقة.

في لقطات أخرى بثتها شاشات التلفزة آنذاك، ظهر محمد فارس داخل المحطة الفضائية مشدودًا إلى مشهد يتابعه من علو 400كم باهتمام عبر نافذة مستديرة، لم يكن أحد من الذين يتابعونه على الأرض يعرف ما هو، لولا أن علّق عليه بصوت مسموع جيدًا: “هذا وطني، ما أجمله، يبدو رائعًا جدًا، وهذه حلب مدينتي ما أجملها، نحن نحلق فوق مدينة حلب، بالضبط فوق حلب.

رحل الأسد الأب عام 2000، وانتقل حكم سورية إلى الأسد الابن، بسلاسة تشبه ما تعيشه الأنظمة الملكية في مناسبات كهذه.

لم يتغير نهج الأسد الثاني في حكم البلاد عن أبيه، لكن الذي تغير هو الشعب. فحين وأد الابن ربيع دمشق عام 2005 الذي كانت رموزه تطالب ببدائل جديدة لحاضر سورية ومستقبلها، تعيد للوطنية ألقها، ويمارس الشعب إرادته في اختيار ما يليق بتاريخه وتقاليده السياسية الديمقراطية والبرلمانية، هبّ ربيع آخر عام 2011. وكان على الأسد الابن أن يستفيد من إرث تجربة أبيه في حماة، ويواجه الشعب المنتفض في الشوارع بالدبابات والصواريخ، ثم الطائرات، وبتوحش لا سابق له في تاريخ الأمم والشعوب.

تغيرت سورية منذ اندلاع الحرب، فالجغرافيا الجميلة التي شاهد محمد فارس على امتدادها مساحات خضراء، وازدهارًا عمرانيًا وحضارات قديمة، يعود تاريخ بعضها إلى الألف السابعة قبل الميلاد، لم تعد على ما كانت عليه، لا حلب التي دمعت عيناه وهو ينظر إليها من علو، ولا إدلب أو حمص وحماة أو درعا أو الرقة ودير الزور.

لقد تحولت البلاد إلى أرض يباب، بفعل نار أضرمها الأسد ضد كل أنماط الحياة. ومن سوء حظ السوريين أن الصور التي التقطها المكوك “سويوز” لبلادهم قبل ثلاثة عقود، وأدهشهم جمالها، باتت خارج حدود الواقع المعاش.  وحلت مكانها صور فضائية قاتمة، يتواصل بثها على مدار الساعة، تتولى جهات دولية تحليلها بقصد الوقوف على حجم الدمار الذي أصاب البلاد.

صُنفت الحرب التي يخوضها الأسد الابن بالكارثة؛ لأنها من صنع بشر، بحسب توصيف إدارة مخاطر الكوارث بمجموعة “البنك الدولي”، فهي الأخرى، تتولى اليوم أمر هذه الصور في إطار مبادرة البنك وضع رسم تخطيطي للدمار الذي حل، ومواقع الضرر، والمنشآت والخدمات التي توقفت عن العمل، وتلك التي ماتزال تعمل، بعد أن جرى تكييف تقنيات جمع البيانات عن بعد، الخاصة بالكوارث الطبيعية، لجمع البيانات والنظر في ما سيؤول إليه الحال في سورية غدًا، ولكن من منظور اليوم السابق، إذ من المفترض أن يكون هذا الإجراء مكملًا،  وليس بديلًا، للتقديرات التي تجري على أرض الواقع، ما إن أن يتسنى إجراؤها.

لقد تناولت النتائج التي توصل إليها فريق البحث -حتى الآن- ست مدن رئيسة: حلب، درعا، حماة، حمص، إدلب، اللاذقية؛ فتظهر صور الأقمار الصناعية، أن حلب بمجدها العريق وذيوع صيتها مركزًا اقتصاديًا عالميًا قديمًا، أضحت أكثر المدن تضررًا من الحرب؛ مقارنة بالمدن الأخرى التي شملها التقييم. وتأتي حمص في المرتبة الثانية، تليها حماة.

حددت الصور الملتقطة بين عامي2014/ 2016 بدقة تطور حجم الدمار، إذ تضاعفت -على سبيل المثال- الأضرار التي حلّت بحلب في العامين الماضيين، وزادت بمقدار الثلث في حمص. ولهذه البيانات أهمية لدى البنك الدولي، لأنها تُقدم فكرة واضحة عن الآثار التي تخلفها الحرب. ويشير الرسم التخطيطي للدمار الذي حل بهذه المدن، إلى أن قطاع الإسكان هو أكثر القطاعات تضررًا، يليه قطاع الطاقة، فقطاعات الصحة والتعليم والطرق والمياه والصرف الصحي؛ على التوالي. وتتراوح التقديرات المرجعية للكلف بين 6.02 و7.36 مليار دولار.

يرى البنك أنه كان من الممكن أن تكون سورية مكانًا أفضل، لو لم تحدث هذه الخسائر البشرية والمادية المرعبة التي سببتها الحرب الوحشية والمأساوية، لكن اليوم، وقبل أن ينجلي غبارها، يتعين علينا استعادة الأمل، والبدء في السير على درب طويل وصعب، نحو السلام.

عندما هبط محمد فارس إلى الأرض بعد ثمانية أيام من التحليق في الفضاء، قال: “تساءلت كثيرًا لماذا يوجد كل هذا الشر في العالم؟ فالأرض جميلة وتتسع لكل البشر، وللأسف طمع وتسلط الاشرار هو الذي يسيطر عليها، لقد صدق أحد رواد الفضاء حين قال: لو أخرجنا الاشرار إلى الفضاء لرجعوا إلينا أخيارًا”.

في ضوء هذا القول، هل كان يتعين على الأسد الابن- بالنظر إلى حالة البلاد طوال سنوات حكمه- أن يحلق في الفضاء قبل أن يتولى سدة الرئاسة السورية؟




المصدر