شيء عن “داعش”
30 يناير، 2017
عقاب يحيى
قال إمام مسجد “القدس” في صيدا اللبنانية، في إثر توقيف انتحاري كان سيفجر نفسه في شارع الحمراء: “(داعش) هذا لم يتمكن أحد -حتى الآن- من فكّ شيفرته، وحلّ لغزه”.
وكان صديق قد أعلمني أن معتقلًا في سجن “صيدنايا” مع عدد من قيادات القاعدة وأطرها(كادراتها)، أخبره بأنهم كانوا يتعاونون مع أجهزة أمن السجن، ويكتبون تقارير ضد سجناء من اتجاهات مخالفة لهم، وأنهم كانوا يجيبون عندما يُسألون: “نرمي كيدهم في نحورهم”، أو “فخار يكسر بعضه”، وخاصة أن من تُكتب ضدهم التقارير من المحسوبين على اليسار والاتجاهات القومية. أي: إن تصرفاتهم وتعاونهم مع النظام لم يكن عفويًا، ولا يصدر عن تبعية وعمالة، وإنما جزء من فلسفة مريبة تبيح استخدام كل الوسائل للإيقاع بالخصوم جملة وتفصيلًا، ومنح أي تصرف نوعًا من المشروعية المدعّمة بفتاوى وأسانيد ملائمة.
كذلك، حدثني أكثر من شخص، عاش ردحًا من الزمن تحت سيطرة حكم تنظيم (داعش) في الرقة، أو دير الزور، أو غيرهما: أن هؤلاء ليسوا عفويين، ولا يتصرفون بردود الفعل؛ وحتى عمليات القتل المروّع، والذبح الوحشي وقطع الرؤوس وعرض الأشلاء، ونشر الفيديوهات الرهيبة، جزء من سياسة الترويع، وهزيمة العدو معنويًا، وعلى السمعة، كما أن كثيرين أكّدوا أن هؤلاء يحملون برنامجًا لمشروع دولة، يعملون على إرساء أسسها إرساءً منظمًا، ومدروسًا، وأنهم يتلاعبون بتحسين أوضاع الناس المادية، شريطة الخضوع التام لهم، وينفقون أموالاً كثيرةً بالعملة الصعبة نوعًا من رشًى موصوفٍة، وأن الأمن عام ومنضبط، ولا يتجرّأ أحد على مخالفة التعليمات، أو السرقة، أو الاعتداء على الناس، اللهم إلا هؤلاء، وما يقرره أميرهم، بخلاف المناطق التي خضعت لفصائل المعارضة، أو الجيش الحر، إذ اتسمت بكثير من الفوضى، والتناحر والتجاوز.
* * *
قيل كثير من الكلام، ونشرت عدد من الوثائق عن أصول القاعدة، وتنظيم (داعش)، وعدّها هؤلاء صناعة الغرب، أو إيران، أو النظام السوري؛ ما يشير إلى أن هؤلاء أدوات وعملاء فحسب، وليس لديهم مشروع، أو خلفية أيديولوجية متطرفة، ولا يملكون -من ثمّ- أي شيء من الاستقلالية.
من السطحية قصر تحليل بنيات وخلفيات القوى المتطرفة، خاصة القاعدة وتنظيم (داعش)، على أنها صناعة صرفة للمخابرات المركزية الأميركية وغيرها، بدءًا من قصة أفغانستان، وتجنيد “المجاهدين” ضد الاحتلال الروسي، وظهور أسامة بن لادن والقاعدة، ولا يتناول عمق هذه الظاهرة، وقدراتها على تجنيد آلاف الشباب ودفعهم إلى الانتحار، وإيقاع الأذى العام بالآخرين من الشعوب والبشر، ولا في شراستهم القتالية، وفنون الحرب عندهم، وتطور وسائلهم التقنية والإعلامية وغيرها، ونمو هذه الظاهرة واستمرارها على الرغم من الحرب التي تُخاض ضدهم من أطراف كثيرة.
ولئن كان الاختراق واردًا، وطبيعيًا؛ حتى في أعلى المستويات القيادية، أو نصب الفخاخ والإيقاع بكثير من الأطر(الكادرات) فيها، أو تنفيذ مهمات تتلاقى مع الآخر الذي يبدو عدوًا، أو الغموض في العلاقات مع الكيان الصهيوني وإيران، وغيرهما. وسياسة المقايضات التي تنتهجها، والتكتيكات المملوءة بالغموض وما يثير الشبهة، فإن تحليل هذه الظاهرة، وفهم تركيبها ووسائلها في إقناع وتجنيد آلاف الشباب من بلدان كثيرة يحتاج إلى دراسات معمّقة، تتجاوز السردي النقلي، إلى جوهر الفكر المتطرف، وموقعه من تاريخ المسلمين، وجملة الحقيبة الفكرية والسياسية التي تمثل زاد التطرف وثقافته، وخلفياته الأيديولوجية.
كثيرًا ما يكون التطرف نتيجة ردّ فعل غير طبيعي على فعل ما، مثل موجات الغزو التي تعرّضت لها بلاد العرب والمسلمين، أو جور الحكام واستبدادهم، أو الصراعات المذهبية، وما عرفته من تناحر وحروب بينية عنيفة، وتشكيل رصيد معرفي كانت تنهل منه حركات التطرف على مرّ العصور، وتعدّه جزءًا صميمًا من الدين الإسلامي، وإرجاع بعضه إلى نصّ قرآني يُفسّر بطريقة تلائم الغرض، أو اقتطاعه من سياقه، أو أحاديث نبوية يقال كثير في صحتها وأسانيدها، أو أحوال قولها.
وعلى الرغم من تعرّض البلدان العربية، على مدار التاريخ، لأنواع كثيرة من الغزو والاحتلال، إلا أنها لم تعرف بروز قوىً متطرفة من هذا المستوى العنيف تعدّ الآخر، مسلمًا كان أو غير مسلم، عدوًا دائمًا يستحق القتل الجماعي لمخالفة الرأي فحسب، ما عدا حالاتٍ فرديةً، وأحوالًا ومحتوىً مختلفًا لما يعرف بحركة “الحشاشين”، فإننا لم نقرأ، أو نسمع عن تفسيرات مشوّهة لمعاني الجهاد، وقتل النفس بالتفجير، وإنزال الأذى المميت بآخر لا علاقة مباشرةً له بالصراع.
سيُقال كثير عن موقع فكر ابن تيمية، وما كُتِب فيه وعنه في أحوال محددة، وعن دور أبي العلا المودودي، وعن مؤثرات الفكر الوهابي، والمفتين الجدد الذين أنبتتهم ما تُعرف بـ “الصحوة الإسلامية” التي رعتها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة الشيوعية والفكر اليساري، ممن ينصّبون أنفسهم مفسرين من طراز خاص للنص القرآني والأحاديث النبوية، وحشوها بالعداء للآخر، وبأحقاد مغمّسة بروح الكره والانتقام.
* * *
لا شكّ في أن البيئة الحاضنة، والمشجّعة للتطرف كثيرة وكبيرة، إن كان ما يتعلق منها بحدّة وشراسة التدخلات الخارجية، وقوفًا عند فلسطين واغتصابها، والدعم اللامحدود للحركة الصهيونية وكيانها العدواني، أو في غزو العراق وتدمير الدولة العراقية عن تصميم مسبّق، وما بينهما وبعدهما من أحداث دامية وقهرية تطال البلدان العربية عامةً، وأفغانستان، أو في واقع الاستبداد المكين في الوطن العربي، واغتيال الحريات والحقوق وامتهان كرامة الإنسان من أنظمة مدعومة-مباشرة أو بالنتيجة- من الدول الغربية، ومستوى التفاوت في توزيع الدخل لمصلحة طغم وعصب السلطة، وما حولها من شبكات “مافيا” تنهش ثروات الوطن، وتفشل تنميته، وعصرنته، وتخون قضايا الأمة، وما يعدّ مقدّسًا، علاوة على مستوى القمع في الدولة الأمنية، وتصفية الخصوم.
إن القمع والكبت والتهميش يُولِّد الانفجار، وقد يتخذ الانفجار أشكالًا تتجاوز المتوقَّع، خصوصًا بوجود قوىً وجهات داخلية وخارجية، لها مصلحة في استثمار الاحتقان، وتوظيفه في مشروعاتها وسياساتها الخاصة، وهو ما يمكن الإمساك به -بقوة- في استفادة عدد من الدول الغربية، وغيرها، من ظاهرة التشدد، وتقديم الدعم متعدد الأشكال له؛ خدمة لأهداف تخصّها، ولإيجاد مسوغات لتدخلاتها باختلاق أعداء، أو تضخيم الأخطار، وقد بات المسلمون أو الإسلام، الراية والدريئة، عدوًا؛ مثلما كانت الشيوعية والمعسكر الاشتراكي، وتحشيد العالم وزجّه؛ لخوض معارك استنزافية، الخاسر الأكبر فيها الشعوب العربية، وكياناتها المهددة بمزيد من التفتيت، والحروب الأهلية، والصراعات العمودية.
الجميع يعرف أن القوى الغربية النافذة، ومعها الحركة الصهيونية بتأثيراتها ونفوذها، تصنع في كل مرحلة عدوًا واقعيًا، أو افتراضيًا، ويمكن أن تخلقه بنفسها، أو تضخّم قوته وتنفخ في ضرره وآثاره عليها، وعلى العالم؛ لإيجاد مسوّغات ملائمة، تنفُذ من خلالها إلى بقية دول العالم، أو لاستنزافها، ولتخويف مجتمعاتها، وتصريف بعض أزماتها.
وإذا كان الفكر “الداعشي” المتطرف يجد تربته الخصبة في الشباب الذي يعاني “المَسْخ” والفقر والتهميش والقهر، وينفذ عمليات غسل دماغ مركزة، مبنية على أكوام الحقد ضد الآخر، وعلى وعود أخروية؛ فإن بقاء تلك البيئة الحاضنة يعني القابلية للصيد فيها، ويعني -أيضًا- ولادة وتوليد حركات التطرف المتعددة خلفياتها وأسماؤها.
إن تكريس الديمقراطية والمساواة في الحقوق على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية، ووجود مشروع للأمة، أو الدولة الوطنية، يحقق إرادتها وتطلعات شعبها، ويستجيب للعصر وسماته؛ هو السبيل الوحيد للقضاء على الفكر المتشدد، وليس بواسطة الطائرات، والأحلاف الدولية ذات الأغراض المشبوهة.
[sociallocker] [/sociallocker]