وهم الصدمة الحضارية

30 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017

عبد الواحد علواني

(نقاش مع الكاتب علاء الدين الخطيب في مقاله المعنون بـ: “اللاجئون والاندماج والمؤامرة”.. المنشور في صحيفة “جيرون” بتاريخ 24 كانون الثاني/ يناير، 2017).

بادر الأخ علاء الدين الخطيب، من كتاب صحيفة (جيرون)، إلى نقد مادة لي نُشرت منذ أيام في صحيفة (جيرون)، وهو أمر يدعو إلى السرور، في زمن بات كلٌّ يقرأ لنفسه أو لمن يتصل بهم، وأشكر له -بداية- اهتمامه وجهده الطيب، ولعلها تتصاعد حال الحوار والنقاش، في (جيرون)، وغيرها، فلا يجلو الفكر إلا الفكر، ولا يرتقي الفهم إلا بالتواصل والحوار. لكن لا بد من مناقشة رده الذي أراه ردًا على فهمه لي، أكثر من كونه ردًا علي، ويهمني أن أعرف كيف يفهمني القارئ، وخاصة إذا كان مثقفًا وكاتبًا. ولست أروم الدخول في سجال، ولا أظنه كذلك، لذلك؛ سأعيد مناقشة النقاط التي أشار إليها إشارة عامة، فما يبدو تناقضًا إنما هو نتيجة تأويل أو قراءة سريعة.

يفضل الأخ الخطيب لمقالي، تسمية لا أقرها ولا أعترف بها، فالصدمة الحضارية ولى زمنها، ربما كان لها قبل مئة وخمسين سنة وجه ما، وفيها آراء مختلفة، لكن لا أعتقد أنها موجودة اليوم، فالصدمة تنتج من الانعزال الشامل، وأي مواطن من مواطني العالم الثالث، إما أن يكون مطلعًا على طبيعة الإنتاج والفكر في الغرب، أو يكون في احتكاك مع منتجاته شأنه شأن أي مواطن غربي، وبحسب اهتمامه، على الرغم من حشود اللاجئين إلى أوربا، لن تجد لاجئًا واحدًا (من الشرق الأوسط على الأقل) فاغرًا فاه مندهشًا، بل ثق أن الصدمة ليست حضارية البتة، وإن كانت ثمة صدمة؛ فإنها صدمة غير حضارية في بعض البلدان، إذ يخيل لهم أنهم مقبلون على الأمن والكرامة والحرية، فيكتشفون -بمرور الوقت- أنها ليست كما توهموا، وأن هذه المجتمعات -بحد ذاتها- منضبطة ومراقبة ومحاصرة، لكن بأسلوب ناعم وقانوني، وبآليات صارمة، وتحت شعارات إنسانية براقة جدًا، بل إن الصدمة تكاد تصل إلى الأسف، عندما يلاحظ القادمون مجتمعاتٍ فيها الأفراد بعضهم منعزل عن بعض، باتت الفردانية فيها خير ضامن للسير في المساقات الإنتاجية، بحسب رؤية طبقات محتكرة، من خلال حملات إعلانية وإعلامية تحشدهم بسهولة للموافقة على قانون أو رفضه فحسب. دون إتاحة المجال للعلاقات الإنسانية الدافئة لتشكل دوائر إنتاج رأي مغاير، المشكلة أننا نلجأ إلى مقارنة أنظمتها بأنظمتنا فيُسقط في أيدينا، وهي مقارنة غير منطقية، وخاصة إذا كنا نتناقش في ساحة الحرية والإنسان. أما عنوان (مقالي) الأصل فإني لا أتبناه، إنما ذكرته في العنوان على سبيل التهكم! وهو أمر يتضح في السياق، لأن الثنائيات التي اعتدنا أن نصنفها في إطار السذاجات، لا تغيب – -مع الأسف– عن أحاديث السلطات الأوروبية المختلفة التي تحتك بالوافدين، وجملة (ثقافتنا وثقافتكم) ما كان لي أن أذكرها لو لم تتكرر حتى باتت ظاهرة، وحتى وإن غابت، كانت تظهر بتعابير أخرى. لذلك لا أختلف مع السيد الخطيب، بل هذا ما يدعوني إلى القول بأنه يرد على فهمه المستعجل لي.

الثقافة الغربية متعالية، بكل تأكيد، وليس الأمر وليد اليوم، إنما هناك مركزية غربية تأسست منذ القرن الرابع عشر الميلادي، وتصاعدت في القرن السابع عشر، وانغلقت على نفسها في القرن التاسع عشر، وإلى اليوم لن تجد سوى قلة قليلة من المثقفين الغربيين أنفسهم، ممن لا يقرون هذا التعالي وتلك المركزية، وهذه القلة أكثرها منبوذ ضمن ثقافاتهم. هذا التعالي يتجلى -بشكل وآخر- حتى في الطابع الإنساني والممارسات الودية، فالمسألة لا تتعلق بشخص أو سلوكية فرد، وإنما هو نقاش قديم، ابتداء من وصم العصور الوسطى بالمظلمة، ومرورًا بوسوم (المجتمعات النامية) … وانتهاءً بالإرهاب (الإسلامي). وذكرت موضوع العنف الأسري مثالًا فحسب. ولا يمكن نفي الواقع، لكن يجب عدم ربطه بثقافة دون أخرى، ودون تدقيق. ومقالتي قائمة على الاعتراف بها في مجتمعاتنا، وتحليل أسبابها، والفكرة الرئيسة تدور حول السؤال: هل هذا الواقع من مفرزات ثقافة محلية فحسب، أم هو نتاج سياسات وأوضاع تحكم العالم منذ قرون.

في تراثنا التربوي العلمي، وخاصة عند أعلام هذا التراث، وليس في المدونات الكشكولية، نجد أن الأفكار التي أشرتُ إليها مؤسسة وموجودة ومتفق عليها، لكن -مع الأسف- ثقافة الجماهير عادة ثقافة كشكولية، وأنا أتحدث عن المراجع العلمية، وليس الأغاني والأمالي والمسامرات، وبعض كتب فقهاء السلطان. وهذا تأكيد من خلال التخصص، وليس البحث والاطلاع وحسب. نعم -مع الأسف- لم تطور مجتمعاتنا أي منظومة، وهذا التأخر (والتخلف) لا بد من تحليل أسبابه، ومعرفة الثقافات التي ترسخه وتجعله قدرًا لمجتمعات (الأطراف). أما مسألة مسخ الذات الوافدة، فلا تتعلق أبدًا بمسائل تعلم اللغة والتعرف إلى القوانين، ولكي لا أشرح كثيرًا، لعلنا نتأمل الفارق في الإجراءات والممارسات والقوانين بين الدول الأوروبية، من جهة، وبين الولايات المتحدة وكندا، من جهة ثانية؛ إذ من الواضح ميل المجتمعات الأوروبية إلى التنميط الثقافي العام الذي تجلى عبر العقود الماضية في قضايا كثيرة إشكالية، وحوادث وقوانين، بينما التنوع الثقافي الهائل في مجتمعات أميركا الشمالية يحررها من أوهام الأيديولوجيا، فالانشغال بذكريات العَظَمَة، لا يتيح أي عَظَمَة ممكنة!

القول إن العنف الأسري مرتبط بالاستعمار الغربي قول ملتبس بكل تأكيد، ولا يمكن أن يرد هكذا، لكن العنف الأسري (وأتحدث من باب الاختصاص) ينتج عن تراكم الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، سواء أكان المسبب فيها استعمارًا أم استبدادًا أم فقرًا… إلخ، بمعنى آخر؛ صلة العنف (الأسري خاصة) بالثقافة صلة موهومة. أما حول واقع المهاجرين، فإني أعتقد أن أي شخص يعاين واقع اللاجئين والمهاجرين في بلدان أوروبا عامة، سيجد أن أعمال (الستيدا) والمهن الدنيا، مناطة -بشكل أو بآخر- بالأرومات الثقافية والعرقية المغايرة، ليكن، نختلف بالتحليل، لكنها ظاهرة حقيقية ومعاشة ومستمرة.

بقي أن نقول: إن المقال نقاش حول مقولة هزيلة (ثقافتنا وثقافتكم)، أنا على ثقة بأن كل لاجئ اليوم في أوروبا يقول: فليحل هذا الغرب عن ظهورنا، ونحن بغنى عن خيراته وحياته الكريمة، وإن اكتفى الغرب بالكف عن دعم الاستبداد، لن تجد من يرضى بالبقاء متنعمًا (بخيراته) العظيمة، إلا من رحم ربي. لم يعد هناك من صدمات، إنما سياسات مدمرة تقودها مافيات سلطوية عالمية، ضد شعوب العالم قاطبة.

أعيد شكر الأخ الخطيب… وصحيفة (جيرون) التي نستبشر بها من أجل تواصل ثقافي وفكري ومعرفي، لطالما افتقده السوريون في ما بينهم.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]