حول مشروع الدستور الروسي لسورية
31 يناير، 2017
نادر جبلي
الدستور هو القانون الأعلى والأسمى في أي دولة، وهو رأس النظام القانوني ومظلته ومصدر شرعيته، وهو الترجمة الفعلية للعقد الاجتماعي بين مكونات الشعب الواحد. يضعه مواطنو الدولة في لحظة معينة، عبر قواهم وممثليهم ومناقشاتهم وتصويتهم.. ليعبروا من خلاله عن آمالهم وتطلعاتهم نحو المستقبل، وإرادتهم في العيش المشترك، ورؤيتهم لطريقة إدارة بلادهم، والخروج من صراعاتهم.
يحدد الدستور الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد، ويحدد أسس النظام السياسي، وشكل الدولة وطبيعة نظام الحكم، كما يُنشئ السلطات العامة، ويُحدّد وظائفها وطرق ممارستها وانتقالها، وعلاقاتها البينية. كما يحدِّد، ويحمي، الحقوق الأساسية للمواطنين والحريات العامة، ويتيح للشعب محاسبة حكامه، ويوفر له الآليات اللازمة لتغييرهم بالطرق السلمية، ويحقق التوازنات اللازمة لكل ذلك.
وفي حالتنا السورية، يضاف إلى وظائف الدستور وظيفة أخرى لا تقل أهمية، هي مساعدة البلاد في الخروج من أتون حرب مديدة قاسية، دمرت البشر والحجر، وأصابت العلاقة بين السوريين بمقتل. وكذلك مساعدة البلاد في تصفية آثار نظام همجي وحقبة سوداء امتدت نصف قرن، والانتقال إلى نظام ديمقراطي، ودولة وطنية حديثة.
ولكي يستطيع الدستور التصدي لاستحقاقات بهذا الحجم، لا بد أن يحوز على احترام وقبول أغلبية المواطنين، وقوى وفئات المجتمع المختلفة، لذلك؛ لا بد من أن يكون مشغولًا بإرادتهم وبأيديهم حصرًا. لذلك؛ لا يمكن كتابة الدستور من طرف أجنبي غريب عن البلاد؛ لأنه سيكون جسمًا غريبًا مرفوضًا، غير قابل للحياة، ويفتقر لأهم عوامل نجاحه، وهو قبول الناس به، وإحساسهم بأنه يلائمهم، ويحيط بتطلعاتهم، ويراعي تاريخهم وثقافتهم.
إن تقديم الروس مشروع دستور متكامل للسوريين في أستانا، متجاهلين كل ما ذكر أعلاه عن وثيقة وطنية بهذه الأهمية والحساسية، متجاهلين وضع السوريين البائس بعد مأساتهم الكبيرة التي للروس دور رئيس في صُنعها، هو تصرف يحمل من العنجهية والوقاحة والغباء السياسي والقانوني بقدر ما يحمل من إهانة للشعب السوري وامتهان لكرامته.. فضلًا عن كونه مشروعًا هزيلًا لا يستحق الاحترام؛ لكثرة ما يحتويه من أخطاء وعيوب وثغرات.
ثم من قال للروس إن السوريين عاجزون عن كتابة دستورهم؟ ومن قال لهم بأن القضية قضية كتابة ومن يكتبون؟
كتابة الدستور هي أسهل خطوة في مسيرة إعداد الدستور الشاقة والطويلة، أما القضية الرئيسة في هذه المسيرة، فهي التوافق الوطني والسياسي على مضمون الدستور، ومن غير هذا التوافق، فإن أي حديث عن كتابة دستور هو حديث مرسل لا قيمة له.
إذن؛ لا بد، قبل التفكير بكتابة دستور لائق قابل للحياة، من توفر شروط موضوعية ملائمة، تتيح لجميع السوريين، مباشرةً أو عبر ممثليهم، فرصة النقاش والمشاركة فيه، أي: لا بد من توفر حد أدنى من السلام والأمن والهدوء والاستقرار والحرية والثقة والعدل والقانون. فأين نحن من كل هذا وسورية في حال دمار شبه كامل، ونصف السوريين في الشتات، والبلاد تحت الاحتلالات المختلفة، وتحت رحمة السلاح والميليشيا وأمراء الحرب؟ وحيث لا أمن ولا أمان ولا حدّ أدنى من الحرية والحياة الإنسانية؟ وأين نحن من كل هذا وما زالت كل مقومات ومسببات المأساة السورية موجودة وفاعلة؟ وعلى رأسها طغمة دمشق الحاكمة؟ وأين نحن من كل هذا وحجم الانتهاكات الحاصلة خلال السنوات الست المنصرمة لا يستوعبه العقل، ومستوى الثقة بين فئات المجتمع في الحضيض؟
ومن جانب آخر، فهل تحتاج البلاد إلى كتابة دستور الآن وفي هذه الأحوال؟ وبصيغة أخرى: هل كتابة الدستور هو المقدمة أو الشرط الذي لا بد منه؛ للخروج مما نحن فيه، والدخول في مرحلة انتقالية تأخذنا إلى دولتنا المنشودة؟
الجواب: لا، فكما أنه لا تتوفر الشروط الموضوعية لكتابة الدستور، كذلك لا توجد حاجة لكتابته، فالأولوية الآن لوقف الحرب وأعمال العنف، واسترداد الأمن، وعودة الناس إلى بيوتها وحياتها الطبيعية. ويكفي، عند بدء المرحلة الانتقالية، صدور إعلان دستوري عن السلطة القائمة، يتضمن الأحكام والقواعد والمبادئ، اللازمة والكافية، لتغطية مهمات المرحلة الانتقالية، ريثما يصبح البلد جاهزًا لكتابة الدستور.
لا يمكن، تحت أي مبرر، قبول مشروع الدستور الذي قدمته روسيا، ولا حتى مناقشته، فروسيا بلد أجنبي أولًا، ولم يحدث -بحسب علمي- أن قام بلد أجنبي بإعداد دستور لبلد آخر، حتى لو كان محتلًا. وروسيا بلد عدو ثانيًا، حمت نظامًا قاتلًا، ومنعته من السقوط، ومنعت فرصة الحرية عن الشعب السوري، وقتلت آلاف السوريين ودمرت بيوتهم، ولا شيء يؤكد أن دستورها سيكون أفضل من صواريخها. ومشروع الدستور تافه ومتهافت بما فيه الكفاية ثالثًا، وهو ليس أكثر من نسخة ممسوخة ومعدلة من دستور بشار الأسد لعام 2012، ويكفيه “فخرًا” أنه يسمح للقاتل بشار الأسد بإكمال فترته الرئاسية الحالية، والترشح لفترتين رئاسيتين جديدتين. أما رابعًا وأخيرًا، فالسوريون قادرون على كتابة دستورهم بجدارة عندما تستحق لحظة الكتابة، وسيكون دستورهم متقدمًا متكاملًا، يعكس ثقافتهم وتاريخهم وعشقهم لوطنهم، ويلبي تطلعاتهم نحو مستقبل أفضل.
[sociallocker] [/sociallocker]