في تمايز “الآستانات” وسياق المدى القريب


جمال الشوفي

لم تغب “المعارضة المعتدلة”، أو بمسمى آخر “المعارضة الوطنية الداخلية الشريفة السورية”، عن مؤتمر أو خطة عمل روسيا يومًا طوال ستة أعوام خلت، سوى في آستانا أخيرًا! فمنذ موسكو 1 و2 والقاهرة وحميميم وآستانا 1 في 25/ 5/ 2015 وآستانا 2 في 2/ 10/ 2015، لم تتوقف المعارضة الكلاسيكية السورية عن تعدد منصاتها ومنابرها وتحالفاتها البنية، مشكّلةً “الجبهة الوطنية الداخلية المعارضة” في إشارتين: الأولى تماثلية مع جبهة حزب البعث المفوّتة، والثانية لتفرقتها عن المعارضة “الخارجية” المتمثلة بالائتلاف ومن يمثله! وهي التي اجتهدت طوال الأعوام السابقة في تحريك ملفاتها السياسية برعاية روسية مرات عدة، في سياق طرحها المتواصل لضرورة إيجاد حل سياسي للمسألة السورية التي رأت أن: “مشاركة كل القوى الوطنية السورية وفعاليات المجتمع المدني في الحوار، شرطًا لا بد منه في الحل. وتشكل مبادئ جنيف 1 وتطويراته أساسًا لأي حل سياسي مع البناء على كل المسارات والأوراق التوافقية في موسكو 1 و2 كشرط لعملية الانتقال السياسي للسلطة عبر حكومة توافق وطني مرحلي…”، ذلك بحسب بيان آستانا 1. فهل كانت مقترحات آستانا 1 و2 وموسكو 1 و2 أساسًا لحل المسألة السورية؟ وما تطويرات جنيف 1 تلك؟ وإلى أي مدى كانت مجمل هذه العملية تخدم قوانين المدى القريب في سياسة الأمر الواقع.

في “تمايزات” آستانا

من المبكِر الخوض في ما سيتمخض -عمليًا- عن اجتماع آستانا 23-24/ 1/ 2017، من حالات إجرائية يمكن تنفيذها على واقع الأرض، فالبيان الختامي حدّد -بوضوح- التزام الرعاية الثلاثية الروسية – التركية – الإيرانية على أنها، بحسب نص البيان الختامي، “تُبدي قناعتها بأنه ما من حل عسكري للصراع السوري، وبأن الصراع يمكن حلّه فقط من خلال عملية سياسية، قائمة على أساس تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بشكل كامل، وستسعى، من خلال خطوات محددة ومتماسكة، وباستخدام التأثير في مختلف الأطراف لتدعيم حالة وقف إطلاق النار، عملًا بالتفاهمات الموقعة في 29/ 1/ 2016، التي دعمها قرار مجلس الأمن 2336، الأمر الذي سيساهم في تقليص العنف والحد من الانتهاكات وبناء الثقة”. والمفيد ذكره في هذا الاجتماع وتميزه عن غيره من لقاءات آستانا ذاتها سابقًا، أنه جَمَعَ الفصائل العسكرية للمعارضة السورية، ومن يمثلها، وبعض الاستشاريين السياسيين الداعمين من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ليبدو وكأنه لقاء تفاوضي عسكري، في حدود التفاهم المعروف تاريخيًا على نقاط خطوط وقف إطلاق النار المتعارف عليها في الحروب. وحيث أن مسارات هذا اللقاء وخلفية المشهد السوري العسكرية تبدو لليوم متاهة شائكة بين القوى الإقليمية الكبرى في نزاعاتها مرة وتوافقاتها مرة أخرى، إلا أنها تبرز وكأن هناك اتفاقًا عامًا على ضرورة وضع حد للعمل العسكري في سورية، والدفع بعملية سياسية تثبت وقائع هذه التفاهمات المعلنة إلى طاولة المفاوضات الأممية في جنيف 8/ 2/ 2017 برعاية روسية أميركية، وهذا ما ستكون له دلالة سياسية أخرى تناقش في حينها.

في هذا السياق، من المفيد أن نطرح على عالمنا السياسي بجميع ألوانه، أسئلة في اتجاه معنى الحلول السياسية التي اقترحت في السابق، في مؤتمرات ومنصات المعارضة السورية المعتدلة أو الداخلية أو غيرها، حسبما يفضلون صفة إطلاقها. فلطالما تعددت المنابر والمنصات وتباينت جداول العمل ومكان انعقادها من مدينة لأخرى، كان أشهرها: موسكو، القاهرة، آستانا؛ للقاءات الفريق الثاني من المعارضة السورية، ولسان حال الجميع الحل السياسي، وطرح الجميع توحيد جهد المعارضة، وحديث الجميع الديمقراطية وسلمية تداول السلطة، وتبدو هذه المصطلحات ذات قيمة فكرية وسياسية في عالم الدبلوماسية الناعمة، وفي مراحل النضال السلمي، كما يحلو للأيديولوجيات القومية والماركسية تسميتها، أي النضال، هو نضال بالمصطلح ونحته والتعب والسهر عليه حتى باتت العملية السياسة مفرغة من مضمونها الواقعي، ومن موازين القوة التي تحكمها في الأساس، سواء كانت اقتصادية أم عسكرية مادية.

ففي كل من آستانا 1 و2 عام 2015، كان قد حضر ممثل عن منصات سورية عدة، أهمها: هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، حزب الوعد، حركة المجتمع التعددي، مستقلون، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، (الإدارة الذاتية) الكردية، التحالف الوطني الديمقراطي السوري، وهي ذاتها الغائبة كلية عن آستانا اليوم؟ ولم تغب عن تلك اللقاءات اشتراطها الدائم المشاركة في أي حل سياسي سوري، فجميع السوريين مشترك في الحل السوري، وهذا حق عام، ومرجعية جنيف 1 وتطويراته، ولليوم لم يرشح عنها تفسير لهذه التطويرات والمعنى منها، والإدارة الذاتية أيضًا! ليبرز للعلن المعنى الضمني المضمر خلف هذه العبارات، متمثلًا ببراغماتية سياسية مفادها حجز مكان سياسي لنفسها في السلطة السورية القادمة برعاية روسية، لا يكون مندمجًا كلية مع النظام، فتبقى على صفة الشكلية في المعارضة، ولا متوافقًا كلية مع باقي أطياف المعارضة فتبدو وكأنها قطب وطني مختلف! وهي لليوم لم تستطع أن تمثل أكثر من أيديولوجيتها السياسية فقط لدرجة نفور قواعدها منها، وانخراط قياداتها في هياكل ومشروعات متداخلة في ذات الشخوص وبهيئات ومنصات متعددة، بحيث تبدو الثورة السورية، وكأنها محطة عبور للأيديولوجيات الكلاسيكية تاريخيًا العاجزة عن مواكبة العصر سياسيًا أو فكريًا.

في مقاربات المدى القصير

مراهنات السياسة العميقة تعتمد في حساباتها على استراتيجية عامة على المدى البعيد، وخطوات تكتيكية على المدى القصير، إذ لم يعد خافيًا على أحد الاستراتيجية الروسية في إحكام سيطرتها العسكرية على مواقع سورية عدة، عبر إضعاف معارضتها المسلحة لصالح النظام، تستطيع من خلالها العودة للساحة العالمية قطبًا ثانيًا في مواجهة الولايات المتحدة، ومن الواضح أيضًا، أنها رسمت مفاعيل استراتيجيتها هذه بحزمة متنوعة من الإجراءات: عمل عسكري مكثف، خلط دائم بين مفهوم الإرهاب والقوى العسكرية المعارضة، دبلوماسية متزمتة في مواجهة القرارات الدولية عبر الفيتو، وعقد تحالفات متباينة إقليميًا مرة مع الإيرانيين ومرة مع الأتراك ومع الطرفين معًا في الآونة الأخيرة، وبين هذا وذاك تفاهمات عدة مع الأميركيين ومن خلفهم إسرائيل، واليوم، وهي تُحاول تثبيت وقف إطلاق النار بالتفاوض المعلن مع المعارضة العسكرية السورية وحلفائها السياسيين، وأيضًا تعمل في الخط الآخر مع فريق سياسي من نوع مختلف، وتدعوه للقاء تشاوري يوم الجمعة 27/ 1 الجاري لتتم بذلك خطواتها المنسقة في برمجة قوانين المدى القريب السياسي في سياق بعدها الاستراتيجي بعيد المدى.

فحيث لابد للتفاوض العالمي أن يجري بمرجعية قطبين عالميين، كما أرادت روسيا، هما الروس والأميركيون، لابد -أيضًا- من أن يجري بين فريقين سوريين، هما المعارضة والنظام، وليس من ضير قطّ، أن تُحضر عددًا من منصات العمل السياسي آنفة الذكر في هذا التفاوض، كما سعت قُبيل جنيف 3 العام الفائت، فالفارق بين “الآستانات” السابقة ليس فارقًا قيميًا يُعطي إحداهما فضلًا على آخر، كما نحب أن نقيّم في ذهنيتنا المبنية على مقولات الأفضل والأحسن والأمثل… بل هو فارق دقيق في مسارات العملية السياسية، ومعايير وجودها الفعلي المرتبطة بالواقع وبموازين الأرض، وأيضًا هو الفارق الجوهري بين كيفية استثمار الجهد السياسي قصير المدى في مقاربة المخططات بعيدة المدى لدولة مثل روسيا.

ما علينا اليوم سوى انتظار التصفيق الحاد لما ستقرّه هذه اللقاءات التشاورية من تطورات في مرجعية الحل السوري في ماهية تطويرات جنيف 1 أو قرار مجلس الأمن 2254 المتضمن تنفيذه، لتبقى موازين القوة ومفاعيلها السياسة حاضرة بجدية في المعارضة العسكرية وحسب، وغائبة كلية عن المعارضة الكلاسيكية “المعتدلة” أو “الداخلية الوطنية” لا فرق بالصفات، وما يتطلع إليه السوريون ألا تنساق أكثر في وهم العملية السياسية ووعودها المخاتلة، دون إعادة النظر في ضرورة التنسيق الفعلي مع المعارضة العسكرية وممثليها السياسيين، بحيث لا تمكن روسيا من الاستفراد بكل منهما على حدة؛ ما يضعف المشروع الوطني السوري قاطبة.




المصدر