لا يزال القرار السوري ممكنًا


حذام زهور عدي

قد لا تكون المحادثات أو “المفاوضات” التي جرت قبل الآستانا، أو في أثنائها، أو استمرارها بعد ذلك، مهمة، لكن المهم: أين القرار السوري من كل ذلك؟ وهل صحيح أن الثورة التي قاتلت النظام الأسدي وحلفاءه غير القليلين -حتى كاد السوريون يشعرون أنهم يقاتلون العالم أجمع لينالوا حريتهم- تلك الثورة التي كادت -على الأقل ثلاث مرات- أن تُسقط الحكم الأسدي باعتراف من أنقذه، وبوسائلها المتواضعة جدًا، فقدت اليوم قرارها الوطني، ومن ثَمّ؛ لم تعد حاضنتها الشعبية تثق في أي موقف أو تحرك يحقق معادلًا لتضحياتها وصبرها على الكوارث التي صنعتها الأسرة الأسدية؟

صحيح أن كثيرًا من المعلومات لا تزال طيّ التكتم، بحيث يحتاج من يتنطع للتحليل، أو لاتخاذ موقف يجزم بصحته، إلى التقدير واللغة المطاطة، لكن، صحيح -أيضًا- أن ما بات مكشوفًا يُعطي ضوءًا غير قليل لموضوع القرار السوري، والتقدير إن كان لازال ممكنًا.

فإذا كان ذلك القرار مرتبطًا بالثوار المسلحين والقوة العسكرية التي على الأرض، سنجد أنه من الصعب جدًا الإقرار بإمكانية اتخاذه -اليوم- بمعزل عن الهيمنة الخارجية عليه، لقد بات من المعروف أن (الموك)، وهي غرفة قيادة الجنوب السوري، تخضع لنفوذ الاستخبارات الأردنية التي تأخذ -من جانبها- بملاحظات الأمن الأميركي والإسرائيلي، فإذا ما توجّهنا شمالًا باتجاه ريف دمشق وغوطتها، واجهنا –كما يُقال- الدعم السعودي، وتحرك الفصائل المرتبط بسياسته في سورية، وقد يتداخل الدعم القطري مع السعودي؛ فتتفق الفصائل، أو ينشأ بعض احتكاك في ما بينها، ينسحب ذلك على الفصائل الممتدة حتى ريف حلب الجنوبي، دون أن نعدم فصائل ذات تمويل خاص، ممن تمثلهم أيديولوجيًا، بتعبير آخر، فصائل ذات تمويل شبه ذاتي، أما الشمال، فمعظمه مرتبط بالدعم التركي، وهكذا؛ فإن قرار الثوار المقاتلين ليس بأيدٍ سورية على الأرجح، ومن ثَمّ؛ فإنه يُمثّل مصالح الدول الإقليمية والدول الكبرى الفاعلة في المأساة السورية، ومن نافل التأكيد أن قرار النظام الأسدي -أيضًا- لا يمتلكه إلا بمقدار حرصه على الإبقاء على كرسي الرئاسة مطوّبًا للأسرة الأسدية، لذلك؛ لم يستغرب المحللون السياسيون الكبار من صدور بيان آستانا بتوقيع كل من إيران وتركيا وروسيا، وخلوّه من توقيعيّ الوفدين السوريين (أصحاب المشكلة)، مغطىً باسم الدول الضامنة لوقف إطلاق النار. والمضحك المبكي أن النار لم تقف، لا قبل انعقاد المحادثات، ولا في أثنائها، ولا بعدها.

من هنا؛ تقتضي الموضوعية الإشارة إلى أن هوامش التأثيرات الذاتية موجودة دائمًا في الطرفين، فظاهرة أمراء الحرب، والميليشيات التي تعمل -أحيانًا- لحسابها الخاص، تُفسح مسافة ما لهذه التأثيرات، لكنها -في النهاية- تظل محدودة بما تسمح به القوى الرئيسة المؤثرة.

إذن؛ هل فقد السوريون قرارهم، أم ما يزال القرار السوري ممكنًا؟ وهل ما يزال تحقيق أهداف الثورة، أو جوهرها على الأقل، ممكنًا، أم سيرضون بما تجود عليهم مصالح الدول حاكمة القرار؟

لا أُقدّم جديدًا في الإجابة عن تلك الأسئلة، إلا ملاحظة أن معظم كتابات المعارضة السياسية، والنخبة التي تتصدر واجهتها، في اتفاق وقناعة بأنّ السوريين باستطاعتهم استعادة قرارهم، إذا تحققت شروط تلك الاستعادة، وأهمها:

– دمج الفصائل في جيش وطني يرسم استراتيجيته ضباط مهنيون خبراء بالخطط العسكرية على مستوى سورية برمتها، يُموّله صندوق وطني يشترك فيه السوريون جميعًا، بل وحتى ممن يستطيع دفع ليرة واحدة، إلى من هو قادر على دفع حدود عليا، والإشراف عليه من لجنة مختلطة، سورية وغير سورية، من ذوي الثقة أصحاب المعرفة بالإدارة الدقيقة لهذه الأمور، على الطريقة البوسنية في حربهم مع الصرب، على أن تُقدّم الحسابات دائمًا، وبشفافية تامة؛ لاسترجاع الثقة المفقودة بالتمويل والصرف.

– هيئة سياسية خبيرة، ملتحمة مع الجسم العسكري، وقادرة على السيطرة عليه، والنطق باسم السوريين، تُشكّل مؤسسات إدارة بديلة للنظام، داخليًا وخارجيًا، تستطيع إدارة تحالفات إقليمية ودولية، تصب في المصلحة السورية، وجهاز إعلام عالي المستوى مهنيًا، يُجيش شعوب العالم للضغط على حكوماتها؛ من أجل مواقف أكثر صلابةً وإنسانية.

كل ذلك بات معروفًا، وكثُرت الكتابة حوله، لكن الكاتبين أنفسهم يكتبونه، وهم في حال إحباطن ويأس من إمكانية تحققه، أو من إمكانية فرز السوريين من يستطيع النهوض بذلك، بعد أن جزَت الأجهزة الأسدية طلائع الشباب الثائر ضمن موجات متتالية، وبعد أن انتشر نوع من اللامبالاة؛ نتيجة أجواء فقدان القرار، وكأنهم -في نهاية الأمر- يستسلمون للرياح تُديرهم كيفما اتفق، يتحدثون كثيرًا ويفعلون قليلًا، في هذا الوقت المصيري، هم وطلائع الشعب السوري، في العمل العسكري والسياسي والمدني، مدعوون جميعًا للعمل الجاد لتحقيق الشروط التي لم يجهلها أحدٌ قط، والحلفاء الإقليميون مدعوون -أيضًا- لمساعدتهم، ففقدان القرار السوري سيؤثر -في النهاية- سلبًا في مصالحهم التي لن يستطيعوا ضمان جزء منها في حال انهيار المقاومة السورية. لابد من استرجاع القرار السوري، حتى لو تطلب الأمر الرجوع خطوات إلى الوراء، ثم التقدم خطوة إلى الأمام، فمن الإجرام الذي لا يقل إجرامًا عمن يقتل الشعب السوري، ويتوحش في التعامل معه، ألا تبدأ مبادرة شجاعة في ذلك الاتجاه، وألا يخرج من أعماق المأساة من يُدوي صوته: أن كفى، كفى، نُريد قرارًا سوريًا وسوريًا فحسب.




المصدر