عن معنى المشروع الوطني الديمقراطي


ماجد كيالي

في مقالة سابقة لي عنوانها: “ثورة وطنية ديمقراطية”، (“جيرون”، 16/ 11) كنت خصّصتها للحديث عن المشروع السياسي للسوريين بوصفه بتعلق بالثورة الوطنية – الديمقراطية. ما قصدته حينذاك أننا إزاء بعدين متداخلين ومتلازمين لهذه الثورة، بحيث أن إنجاز كل واحد منهما شرط لإنجاز الآخر، وبمعنى أنه لا يمكن اقتصار الثورة على أحدهما دون الآخر، مع التأكيد أن إنجاز كل بعد منهما هو أمر صعب ومعقد، فضلًا عن أنه ثورة بحد ذاته.

هكذا، من المفيد -هنا- إعادة تأكيد هوية هذه الثورة، في إطار السعي إلى استعادة مقاصدها الأساسية، المتمثلة بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، في إطار الصراع على الثقافة السياسية في الثورة والمجتمع السوريين، بعد كل ما جرى، وبعد محاولة بعض القوى فرض ثقافة سياسية ذات طبيعة هوياتية ودينية وطائفية. ولعل هذا ما حاوله مركز (حرمون)، بعقده حلقة نقاشية (إسطنبول 20 – 21/ 1)، شاركت فيها مجموعة من السياسيين والمثقفين، وتمحورت حول ماهية “المشروع الوطني الجامع”، في إطار الجهد الذي يبذله هذا المركز؛ للمساهمة في إرساء ثقافة وطنية ديمقراطية للسوريين.

في الورقة التي قدمتها للنقاش، ومع تأكيدي تلازم البعدين: الوطني والديمقراطي، حاولت -أيضًا- التمييز بينهما، بحيث يتركز المشروع السياسي السوري في بعده الوطني على:

أولًا، إننا إزاء ثورة سياسية، تريد استعادة الدولة والسيادة للشعب، وتأكيد حقوق المواطنة: الحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية. أي: إننا إزاء مشروع تتموضع فيه مجمل مكونات الشعب السوري في إطار هذه الثورة، بهذه الدرجة أو تلك، وتبعًا لعوامل أخرى، بحكم مصالحها، يُستثنى من ذلك الطغمة الحاكمة، والقوى المؤيدة لها، وهي قوى لا تقتصر على فئات أو مكونات بعينها. وطبعًا هذه ثورة وطنية؛ لأن النظام يشتغل بمنزلة سلطة خارجية، أو سلطة احتلال، ولا يعترف بحقوق شعب سورية، ولا بوجوده، فضلاُ عن فقدانه السيادة، واستدعائه دولتين (إيران وروسيا) للدفاع عن سلطته، وقتل شعبه، وتدمير عمرانه.

ثانيًا؛ يفيد ذلك -أيضًا- أننا لسنا إزاء ثورة ذات طابع قومي؛ لأن الأمر يتعلق بسورية والنظام والشعب والبلد. ويعني ذلك أننا لسنا إزاء ثورة إسلامية، أو مذهبية، كما يروّج بعضهم عن حسن أو سوء نية، عن بساطة أو عن قصد؛ لأن الأمر يشمل كل الشعب السوري، بجميع مكوناته، وذلك؛ من حيث المصلحة الموضوعية، بغض النظر عن أخذ هذا المكون أو ذاك إلى اتجاهات أخرى، مترددة أو محايدة أو موالية. لذا؛ من مصلحة الثورة استقطاب هذه المكونات، وتعزيز ثقتها بالمستقبل المشترك، لا تركها للنظام؛ للتلاعب بها واستثمارها لصالحه.  وأخيرًا؛ فإن هذا يعني أننا لسنا إزاء ثورة ذات طابع طبقي، من حيث الأهداف المطروحة، والقوى المشاركة، وإن كان الوضع يتطلب الأخذ في الحسبان واقع هيمنة النظام على الموارد، وإفقاره المجتمع، ما يتطلب وضع هدف العدالة الاجتماعية على رأس الأجندة.

ثالثًا؛ على نحو خاص، فإن هذا المشروع بشقه الوطني يركز على مفهوم المواطنة، إذ لا يمكن الحديث عن وطنية بدون الاعتراف، في نص الدستور، بالمكانة القانونية والحقوقية للمواطنين الأحرار والمتساوين والمستقلين (عن أي انتماءات قبلية)، وعدّ المواطنين أفرادًا يمثلون الشعب، بحيث يغدو شعبًا بمعنى الكلمة، بالضد من مفهوم الجمهور أو الجماهير الذي جرى ابتذاله، ولا يفيد إلا بالطواعية والخضوع للسلطة، وانتفاء المواطنة والتغطية على إطاحة الحق بالمشاركة السياسية. ومن نافل القول -هنا- أن الوطن والوطنية يتأسسان على المواطنين، كما ذكرنا، وأن ثمة ابتذال وديماغوجيا وتلاعب في الحديث عن وحدة الأرض، أو وحدة سورية، من دون وحدة شعبها الذي يتألف من مجموع المواطنين الأحرار والمتساوين والمستقلين، من كل المكونات. لذا؛ فهي ثورة وطنية؛ لأن وحدة سورية، التي يتحدث عنها الجميع، تتأسس على وحدة السوريين، بتنوعاتهم؛ إذ لا وحدة جغرافية بدون وحدة مجتمعية؛ ولأن مهمة الثورة السورية صوغ الإجماع الجديد للسوريين، أي صوغ هويتهم ورموزهم ودستورهم وروايتهم التاريخية.

أما المشروع في شقه الديمقراطي، فينطلق من:

أولًا، إن الديمقراطية ليست هوية، إذ إن معنى عبارة لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين أن هؤلاء يتمثلون ذلك في الممارسة، في السياسة وفي المجتمع؛ لأن الديمقراطية رؤية لإطار العلاقات والتوازنات في المجتمع، وبين المجتمع والدولة، أي: إنها جملة تصورات تحدد ممارسات وسلوكيات وآليات عمل معينة.

ثانيًا، إن المقصود تحديد مستقبل سورية في الانتقال إلى نظام سياسي، يكفل مشاركة المواطنين في تقرير مصيرهم، والمشاركة في القرارات المصيرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإدارة أفضل للعلاقات بين جميع المكونات والأحزاب؛ بغض النظر عن اختلافاتها الأيديولوجية والسياسيةً.

ثالثًا، الفكرة -هنا- أن النظام الديمقراطي، الليبرالي الطابع (من ناحية الحقوق السياسية وحقوق المواطنين)، هو البديل لنظام الاستبداد، فهو الذي يكفل أوسع حقوق وحريات للمواطنين، وأوسع مشاركة لهم وللقوى التي تمثلهم، وفي هذا النظام لا تغدو الانقسامات في البلد ذات طابع عمودي (أي هوياتي اثني أو طائفي)، وإنما تصبح انقسامات ذات طابع أفقي، أي على الحقوق والمصالح، بغض النظر عن الاختلافات الهوياتية والأيديولوجية، وفي هذا النظام لا يعود ثمة أكثريات وأقليات، من نوع هوياتي، وإنما من نوعي سياسي، وتبعا للمصالح والرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هكذا، ففي النظام الديمقراطي يجري حل الخلافات بالوسائل القانونية، وفقا للدستور، وعلى أساس الفصل بين السلطات، واحترام إرادة الشعب في الانتخابات، وليس بالقوة والعنف والتسلط، وهكذا تغدو الديمقراطية وسيلة لصوغ المواطنة، وبناء الإجماع الوطني، وتحويل المواطنين إلى شعب حقًا.

رابعًا، في النظام الديمقراطي، نظام المواطنين الأحرار المتساوين، لا تغدو الهويات أحادية وإقصائية، وإنما تغدو مركّبة وتكاملية، فالفرد يمكن أن يكون عربيًا أو كرديًا، وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون يساريًا أو قوميًا أو متدينًا، مثلًا. كما يمكن أن يكون متدينًا، وفي الوقت عينه قوميًا ويساريًا؛ إذ إن الإنسان -في الحقيقة- كائن معقد ومركب من هويات عديدة، والصراعات على السلطة، وعلاقات القوة والسلطة، وحدها التي تبرز مكونًا هوياتيًا معينًا دون غيره، وهذا ما يحول دون تحول شعوبنا إلى شعوب حقًا، يفاقم من ذلك غياب الدولة، أو تحولها إلى نوع من سلطة قهرية؛ وهذا ما يحاول المشروع الوطني الديمقراطي تغييره.

خامسًا، المشروع الوطني الديمقراطي لا يعني التقليل من الطابع الطبقي المتضمن في الثورة التي قامت ضد نظام انتهج الليبرالية المتوحشة، في نظام مافياوي، اعتمد الفساد والإفساد، وامتلك موارد البلد، وهيمن على قطاعاتها الاقتصادية، وهشّم بناها الإنتاجية (بدعوى التأميم)، وعمق تبعيتها للخارج، وأعاق تطورها. والمعنى أن هذا المشروع هو المعبر إلى أي تغيير مقبل؛ لأنه يفترض تكاتف معظم قطاعات الشعب لإنجاز هذه المرحلة الضرورية التي لا بد منها، للولوج بعد ذلك، وفي إطار النظام الديمقراطي، في المهمات التالية التي تتعلق بالبناء الاجتماعي، وشكل النظام الاقتصادي، وكيفية إدارة البلد؛ ما يتطلب وضع هدف العدالة الاجتماعية ضمن محددات العمل من أجل سورية المستقبل، أي سورية الأفضل لجميع مواطنيها.




المصدر