أطراف العدالة: قضاة، محامون… متداعون أمام القضاء


حبيب عيسى

(1)

لقد أكدنا أن استقلال القضاء لا يمكن ان يتحقق إلا بالاستناد إلى أساس دستوري ينص على الفصل بين السلطات، واستقلال السلطة القضائية، لينهض بمهماته بناء على منظومة قوانين عصرية وواضحة، ومؤسسات قضائية ذات هيكلية مؤسساتية محكمة، لكن لا يمكن ترجمة ذلك موضوعيًا إلا من خلال قضاة مهنيين ذوي علم عميق بروح القانون، وطرق تطبيقه، ويمتلكون الإرادة الحرة للنطق بالحق الذي لا يخافون فيه لومة لائم، ويرفضون أي إملاء، أو تدخل من أي جهة كانت، وفي الوقت ذاته يتمتعون بحصانة، ودخل مادي ملائم يكفل لهم حياة كريمة؛ فلا يخضعون لأي مظهر من مظاهر الفساد، وفي ظل قانون دستوري محكم ينظمّ عمل المؤسسات القضائية، واختصاص كل منها، بحيث يضع حدًا للانتهاكات التي تتضمن تعديًا على الحصانة القضائية، حتى لا تفقد معناها.

لقد صدرت مراسيم تشريعية تمس استقلال القضاء، كما أن قانون السلطة القضائية نفسه : (رفع حصانة النقل عن قضاة الحكم متى أريد ترقيتهم من فئة إلى أخرى، وعن القضاة الذين قضوا ثلاث سنوات فأكثر في مراكزهم عندما تقضي الضرورة بنقلهم)، وبذلك تكون حصانة النقل حصانة نظرية أكثر منها عملية، لأنها موقتة، وليست دائمة، في حين أن التشريعات السابقة للسلطة القضائية حافظت على هذه الحصانة، ولم تسمح بالنقل إلا بموافقة القاضي الخطية حتى لو كان من أجل ترقية : (المادة 79 من المرسوم التشريعي رقم 80 لعام 1947، والمادة 96 من المرسوم التشريعي لعام 1946). لكن التشريع الحالي :(سمح بنقل قضاة الحكم إلى ملاك النيابة العامة، أو بالعكس، وذلك؛ بقرار يصدر من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى (مادة 83) دون موافقة القاضي)(1)، وبهذا تكون حصانة القاضي ضعيفة، وعرضة للسلب.

(2)

ومن أمثلة ذلك أًيضًا: المرسوم التشريعي رقم 40 تاريخ 29/ 5/ 1966 الذي أجاز لمجلس الوزراء، لأسباب يعود تقديرها إليه، أن يُقرّر صرف القضاة من الخدمة، أو نقلهم من ملاكهم إلى ملاك آخر. ولا يشترط في هذا القرار أن يكون معللًا، أو أن يتضمن الأسباب التي دعت للصرف من الخدمة، أو النقل، وقرار الصرف من الخدمة، أو النقل غير قابل لأي طريق من طرق المراجعة، ولا يختص مجلس الدولة، أو الهيئة العامة لمحكمة النقض، أو أي مرجع قضائي، أو إداري آخر بالنظر في الاعتراض، أو الطعن بالمرسوم المذكور، واستنادًا إلى هذا المرسوم صدر عن رئيس مجلس الوزراء المرسوم رقم 612 تاريخ 29/ 5/ 1966، والذي قضى بصرف 24 قاضيًا من وظائفهم، دون ذكر الأسباب، وكذلك المرسوم التشريعي رقم 32 تاريخ 6/ 2/ 1968، الذي سمح فيه للسلطة التنفيذية بأن تصرف كل موظف أكمل الخامسة و الخمسين من عمره، أو تجاوزت خدماته الثلاثين عامًا بناء على اقتراح الوزير المختص. وكذلك المرسوم رقم 95 تاريخ 3/ 10/ 2005، الذي قضى برفع حصانة العزل عن القضاة، وذلك لمدة 24 ساعة، وقد صرف من الخدمة بموجب هذا المرسوم 81 قاضيًا، ويملك مجلس الوزراء بموجب هذا المرسوم صلاحية عزل أي قاض دون ذكر الأسباب الموجبة لذلك. دون أن يكون هناك حق للقضاة المعزولين للدفاع عن أنفسهم، أو معرفة سبب العزل، أو حتى إمكانية سلوك طرق الطعن بالقرار المذكور، وفقًا لما ينص عليه الدستور السوري، في مخالفة واضحة له. وبما يخالف أيضًا قانون السلطة القضائية النافذ، الذي نص على تدرج العقوبات التي يمكن أن توقع على القضاة بدءًا من اللوم، يليها قطع الراتب، ثم تأخير الترفيع، وأخيرًا العزل. إضافة إلى أنه كان يجب إحالتهم إلى القضاء، لو كانت أسباب العزل مستندة إلى مسوغات قانونية، أي ارتكابهم أفعالًا تخالف القانون)(2).

(3)

باختصار شديد، لا بد -إضافة إلى تحصين القضاة- من (الاهتمام بتأهيل وتدريب القضاة، واعتماد معايير الكفاية العلمية والخبرة القانونية سواء عند انتسابهم إلى المعهد القضائي، أو عند التعيين ضمن المؤسسة القضائية، وذلك تحت إشراف مجلس القضاء الأعلى وحده، ودون تدخل من أي سلطة كانت. وهذا يعني أن يكون المعهد القضائي تحت الأشراف المباشر والوحيد لمجلس القضاء الأعلى، ابتداء من مسابقة للقبول، تتيح تكافؤ الفرص للمتقدمين، وانتهاء بالتخرج، والتقييم العلمي والقانوني لكل منهم، ولا بد من رفع المستوى المادي للقضاة، بما يتلاءم مع طبيعة الوظيفة التي يؤدونها، وبما يتلاءم مع مستوى المعيشة الاقتصادية في الوقت الحاضر، ما يحفظ استقلالهم، ويحميهم من اللجوء إلى طرق غير مشروعة لتوفير حاجاتهم. وكذلك العناية بدور المحاكم، من حيث اتساعها، وتأمين نظافتها، بما يليق بوصفها قصورًا للعدل، وهذا يفرض العناية بطريقة اختيار القضاة، وتدريبهم، وتأهيلهم واعتماد نظام المسابقات في تعيين القضاة، وذلك؛ بحسب المؤهلات العلمية والقانونية والأخلاقية للمتسابقين، وترك أمر تعيين القضاة إلى مجلس القضاء الأعلى، ولضمان هذا الاستقلال يجب إلحاق المعهد القضائي بمجلس القضاء الأعلى، على أن يكون رئيس المعهد القضائي نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى بدلًا من وزير العدل. ويفرض -أيضًا- عدم وجود روابط عضوية (إدارية أو مالية) بين القضاء، وبين السلطة التنفيذية، وإنشاء موازنة مستقلة خاصة بالسلطة القضائية، والاهتمام بدور المحاكم، وتحديثها، وزيادة عدد القضاة)(3).

‏ وإن كان من حق القضاة إبداء الآراء، والميول السياسية، إلا أنه لا بد من تقنين ذلك بالنص على عدم الانتماء لأي حزب، أو هيئة سياسية خلال ممارسة القضاء، أو تعليق عضوية القاضي في الحزب الذي ينتمي إليه، وإعلانه ذلك رسميًا.

(4)

يقولون إن للعدالة جناحان تحلق بهما هما : (القضاة، والمحامون)، والمشكلة في سورية أن ما قلناه عن الخلل الذي تحدثنا عنه، من تدخل السلطة التنفيذية في المؤسسات القضائية امتد إلى سلك المحاماة، وكما قلنا إذا أردنا البحث عن خلل ما، في مؤسسة ما، يجب أن نبحث عن جذر هذا الخلل في الدستور، فعلى مدى 40 عامًا كانت المادة الثامنة من الدستور الذي جرى تعديله عام 2012 تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي قائد الدولة والمجتمع، وهكذا فإن نقابة المحامين كبقية النقابات المهنية في دولة سورية، باتت تابعة لمكتب من مكاتب القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي يتلقى تقارير من أجهزة أمنية متعددة، قد لا تكتفي بكتابة التقارير والطلب بإجراءات عقابية بحق المحامين، وإنما تتدخل مباشرة باعتقالهم وإيداعهم الزنازين إذا ارتأت ذلك، وعليه؛ نال المحامين من التعسف أكثر من سواهم، ربما لكون نقابة المحامين، أو نقابات المحامين سابقًا، كان لها دور كبير في الحياة السياسية، وبما أن الحياة السياسية باتت بموجب المادة الثامنة من الدستور محصورة في الحزب، وبمن يقود من الأحزاب الأخرى، فيما يسميه الدستور “الجبهة الوطنية التقدمية”، فقد كان لا بد من وضع نقابة المحامين في هذا الإطار، الآن وقد ألغيت المادة الثامنة من دستور 2012، لكن شيئًا لم يتغير في واقع نقابة المحامين، لذلك نرى أن عودة نقابة المحامين إلى دورها الريادي مهنيًا وسياسيًا ووطنيًا ضرورة أساسية في التأسيس لقضاء عادل مستقل في البلاد، وتسهم ليس في تأهيل المحامين، وتطوير مهنيتهم، وحسب، وإنما في تحديث القوانين، والإسهام في عودة الحياة السياسية في البلاد، وتطوير مؤسسات العدالة.

(5)

المتداعون أمام القضاء : وهم العنصر الأساس الذي تقوم عليه، ومن أجله المؤسسات القضائية، فمن هم هؤلاء الذين يمثلون أمام القضاء ويخضعون لأحكامه؟ ، باختصار شديد : إنهم جميع المواطنين دون استثناء، فقبل سن الرشد الذي يحدده القانون يخضعون لقضاء الأحداث، وقوانينه، وبعده يخضعون للمؤسسات القضائية بحسب اختصاصاتها، وللقوانين والأنظمة النافذة، والمبدأ الأساسي في معادلة العدالة هذه: هي ترسيخ الثقة بالمؤسسات القضائية من جهة: كبنية ، واستقلالية، وعدالة، ومساواة، والثقة بمقدرة المؤسسات القضائية على النطق بالحق، وامتلاك القوة لإحقاقه، بالمحافظة عليه وإعادته إذا جرى استلابه، والقصاص من المعتدي، وردع الاعتداء بترسيخ الثقة بأن لا جريمة بلا عقاب، من جهة ثانية.

هذا بمجمله يؤدي إلى ترسيخ قاعدة أساسية لا يقوم مجتمع المواطنة بدونها، وهي عدم استيفاء الحق بالذات، وعدم الاعتداء على حقوق الغير، وهذا لن يتحقق في المجتمع إلا بترسيخ قاعدة المساواة أمام القضاء بحيث لا يخامر أي مواطن الشعور بأنه فوق القانون، أو أن القانون لا يطاله، أو أن القضاء عاجز عن تحصيل  حقوقه، وهذا بدوره لن يتحقق إلا بالثقة العامة بأن عدالة مؤسسات القضاء لا يمكن اختراقها بالفساد، والرشاوي، ولا يمكن اختراقها بتسخيرها لسلطة معينة، أو لقوى متنفذة، فالجميع يخضعون لسلطة القضاء من رئيس السلطة التنفيذية، الذي هو رئيس الجمهورية، أو أيًا كانت تسميته، إلى الحكومة والموظفين العموميين، والمؤسسات العسكرية، والأجهزة الأمنية، وعناصرها، والمؤسسات العامة، والخاصة بوصفها مؤسسات اعتبارية، وأعضاء السلطة التشريعية، والمواطنين الأفراد، أيًا كانت أوضاعهم الاجتماعية، والمادية، وحتى القضاة أنفسهم، ومهما علت مراتبهم يخضعون للمساءلة القضائية وللقوانين الناظمة.

وأخيرًا، في ختام هذا الحديث المختصر عن عدالة القضاء، بوصفه عنصرًا أساسًا لتحقيق العدالة الانتقالية وما بعدها، نعود لتأكيد ما قلناه في بداية هذا الحديث: أن القضاء هو الحصن الأخير للمجتمع، فعندما يصل إليه الخلل، هذا يعني أن الخلل استشرى في مفاصل المجتمع، حتى وصل إلى القضاء، ونقول هنا إن النهوض بالمجتمع من حالة الخراب والتخريب التي نالت من نسيجه الاجتماعي تبدأ، وتتوازى مع بناء مؤسسات قضاء تؤسس على قواعد دستورية سليمة تستعيد ثقة المواطنين بالقضاء، فيكفون عن السعي لاستيفاء الحقوق بالذات، وما يترتب على ذلك من سلسلة لا تنتهي من العدوان، والعدوان المضاد الذي قد يأخذ أبعادًا خطرة تدمر المجتمع ومؤسساته، وقد يدمر الدولة من أساسها.

هوامش ومراجع:

(1) –  تقرير حول السلطة القضائية في الجمهورية العربية السورية (مجموعة من الناشطين الحقوقيين)

(2) – المصدر السابق

(3) –  المصدر السابق.




المصدر