دستور من بوتين ومناطق آمنة من ترامب


القدس العربي

أخيرًا نجح حزب الله الإيراني وبشار الكيماوي في تهجير أهالي وادي بردى، في إنجاز جديد لمشروع التغيير الديموغرافي لبعض المناطق في سورية، في الوقت الذي اقتربت فيه القوات الحليفة للنظام من مدينة الباب المستهدفة من «درع الفرات» التركي، ويستمر الصراع على السلطة بين الفصائل الإسلامية في محافظة إدلب وبعض ريف حلب.

في هذا الإطار من التطورات الميدانية، تلقى السوريون عددًا من الهدايا المسمومة، كمسودة الدستور التي قدمتها روسيا للطرفين المتفاوضين في اجتماع آستانة، ومشروع «المناطق الآمنة» الذي توعد به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبدأ يبحث عن ممولين لها كالمملكة السعودية، و»نجاح» وفد المعارضة المسلحة في حذف كلمة العلمانية من البيان الختامي لاجتماع آستانة.

جاءت ردود الفعل الأولى على مسودة الدستور الروسي برفض دستور مفروض من الخارج، الأمر الذي من المستبعد أن تكون موسكو أرادته فعلًا. بل أرادت بالضبط ردود فعل غاضبة تكشف عمق الانقسامات بين السوريين للقول إنهم غير جديرين بمفاوضة النظام على مصير سورية. وهو ما ينطبق أيضًا على دس كلمة العلمانية في البيان الختامي، بعدما خلا قرار مجلس الأمن المرجعي منها، فخًا لوفد المعارضة المسلحة وقعت فيه بكل جدارة.

لا يتطلب الأمر، على أي حال، كل هذا الخبث من ديبلوماسيي بوتين، فالانقسامات السورية معروفة للقاصي والداني بين إسلاميين وعلمانيين، وعروبيين وقوميين كرد، ووطنيين وسلفيين، وريفيين ومدينيين.. إلخ. يكفي طرح هذه المسائل الجدلية حتى ينسى الجميع أصل المشكلة السورية المتمثلة في عصابة إجرامية سطت على الدولة لأكثر من نصف قرن وترفض التخلي عن ملكيتها الحصرية لها حتى لو امحت سورية من الخرائط.

والحال أن نصف المليون من السوريين قد قتلوا، وأضعاف هذا الرقم أصيبوا بخسائر جسدية دائمة، ونصف السكان شردوا من موطنهم داخل سورية وخارجها، ومئات الآلاف يموتون ببطء في أقبية الأجهزة المتوحشة، ونصف العمران تم تدميره، وتقسمت البلاد بين دويلات أمر واقع ومناطق احتلال وقواعد عسكرية لقوات أجنبية. أي أن سورية انتهت أو تكاد، والعصابة باقية.

في ظل هذه المعطيات هناك، بعدُ، من تغضبهم إزالة صفة «العربية» من اسم الدولة السورية، مع أنها كانت خالية منها قبل المرحلة البعثية المديدة. وهناك، بالمقابل، من أبهجتهم هذه الإزالة لأنهم طالما طالبوا بها. كذلك هي حال إلغاء «الدستور الروسي لسورية» للمرجعية الإسلامية، سواء في الإشارة إلى دين رئيس الجمهورية، أو في نص القسم الدستوري، أو في مرجعيات التشريع. فقد أثارت هذه التغييرات «العلمانية» أيضًا غضب قسم من السوريين، مقابل قبول قسم آخر، الأمر الذي يتقاطع مع رفض وفد المعارضة لكلمة العلمانية في البيان الختامي لاجتماع آستانة.

لا إلغاء صفة العروبة من اسم الدولة يغير من واقع أن أكثرية السوريين هم من العرب، ولا إلغاء المرجعية الإسلامية يغير من واقع أن أكثريتهم مسلمون. وبصرف النظر عمن يحكم سورية، وعن نصوص دستورها، ستبقى سورية جزءًا من المنظومة العربية ومؤسساتها، كما ستبقى جزءًا من العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال نرى أن لبنان دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي على رغم رئاستها المسيحية حصرًا، وكان جلال الطالباني (الكردي) يحضر مؤتمرات القمة العربية بصفته رئيسًا للعراق الدولة العضو في الجامعة العربية. ليس هناك، إذن، ما يمنع انتماء سورية التعددية إلى الفضاءين العربي والإسلامي.

ونظرًا لتنوع الاجتماع السوري أصلًا، الذي تحول، أثناء الصراع، إلى تفكك في البنية الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية، تبدو حيادية الدولة السورية إزاء الأديان والثقافات شرطًا شارطًا لقيام وطن لجميع أبنائه. وذلك بصرف النظر عن «روسية» الدستور أو سوريته. ومن المحتمل أن يكون الاحتكام إلى رأي الأكثرية، في شأن مرجعيات الدولة أو صفاتها، هو أسوأ الخيارات، وخاصة في ظل ظروف الصراع الدموي الدائر والاستقطابات الحادة القائمة اليوم. فلا شيء يضمن الحكمة في قرار الأكثرية، في وقت يملأ فيه الدم والخراب الفضاء العام. فما يجعل الدولة دولة هي صفتها العمومية وحيادها، ومن شأن أي أوصاف أو مرجعيات مضافة إليها أن تنتقص من كونها دولة. أما شكل النظام السياسي والإداري، برلماني أو رئاسي، مركزي أو لا مركزي، فهي أمور خاضعة للنقاش من حيث أيها أجدى وأكثر استيعابًا وتمثيلًا وفعالية. وهو نقاش سابق لأوانه، مع ذلك، إلا إذا سلمنا بالمنظور الروسي للتسوية السياسية القائم على فكرة «حكومة وحدة وطنية» برئاسة عميلها في دمشق، تضع دستورًا يتناسب وموازين القوى القائمة الآن. في حين أن الدستور المرتجى هو عقد اجتماعي جديد ينشئ هوية وطنية سورية لما بعد التخلص من العصابة.

أما «هدية» ترامب ـ مالئ الدنيا وشاغل الناس هذه الأيام ـ المتمثلة بالمناطق الآمنة، فقد جاءت خارج كل السياق السابق، وتشبه شخصيته وتوجهاته. فالمناطق الآمنة، أو مناطق حظر الطيران، التي طالما كانت مطلبًا لتركيا والمعارضة السورية الرئيسية، وطالما رفضتها إدارة باراك أوباما بدعوى تجنب الانخراط في الصراع السوري، جاء طرحها اليوم، ومن قبل رجل الأعمال الفاشي الذي تحول إلى رئيس لأعظم دولة في العالم، كنكتة سمجة، فضلًا عن تعارضها مع مناخات التسوية على الطريقة الروسية. فالمناطق الآمنة تعني اليوم استمرار الصراع الدموي إلى أجل غير مسمى، وتسليمًا بمنطق التقسيم القائم كأمر واقع. وغاية ترامب منها هي التخلص من اللاجئين السوريين، ووقف تدفق المزيد منهم، «تصحيحًا للخطأ الذي اقترفه الأوروبيون» على حد تعبيره، بقبولهم لجوء بعض اللاجئين السوريين. وكحال السور العازل الذي أمر ببنائه على طول حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، يريد ترامب تحميل الكلفة المادية لمشروعه بشأن المناطق الآمنة لدول أخرى. ومن المحتمل أن يشكل اختيار مكان المنطقة الآمنة ووسائل تأمينها سببًا لمزيد من التجاذبات الإقليمية والدولية حول سورية.

(*) كاتب سوري




المصدر