زهرة التوليب، الجاسوسة لباولو كويللو
3 شباط (فبراير - فيفري)، 2017
أنجيل الشاعر
يحفل أدب التجسس بالغموض الذي يثير شغف القارئة والقارئ، وتندرج رواياته وقصصه ضمن الروايات والقصص البوليسية التي يمتزج فيها الخيال بالواقع، وقد تكون أكثر واقعية من أي رواية أو قصة أخرى، ويعد هذا الأدب قليلًا بعض الشيء، ذلك؛ لأن أحداثه وشخصياته أكثر حساسية وسرية من الشخصيات في الأدب بوجه عام.
ظهرت في أوائل القرن العشرين الشخصية الجاسوسية العالمية “جيمس بوند” للروائي الإنكليزي “إيان فليمنغ”، وقد تحولت هذه الشخصية إلى كثير من الأفلام السينمائية، وهي تتمتع بخفة ظل ودهاء ذكيّ وبطولة خارقة وأناقة متناهية، أما “ماتا هاري” جاسوسة “باولو كويلو” فهي الأكثر ظرافة وأناقة والأذكى من حيث قدرتها على جعل القارئ يتعاطف معها بكل ما فيه من مشاعر إنسانية.
يبدأ “باولو كويللو” روايته الجاسوسة بتقديم صوفي، أو موعظة دينية، كعادته دومًا: “يا مريم البريئة من الخطيئة صلي لأجلنا نحن الملتجئين إليك آمين”. وهو كما نعرفه الشخص المتأثر بتعاليم “أوشو” الروحية، والمعروف عنه -أيضًا- أنه المتحدث باسم المرأة في أغلب رواياته، لأن مريم المجدلية تتناسخ في كل جهات الأرض.
“ماتا هاري” بطلة رواية “الجاسوسة” هي الشخصية الروائية للجاسوسة الحقيقية “مارغريتا غريتشي”، التي عملت جاسوسة مزدوجة بين الألمان وفرنسا أبان الحرب العالمية الأولى، وهي أشهر جاسوسة في التاريخ، ولدت عام 1876 لأب هولندي ثريّ وأم أندونيسية. بعد إفلاس والدها ومرض أمها تزوجت من أحد الضباط وانتقلت معه إلى جزيرة “جاوة” الأندونيسية، تحولت حياتها هناك تحولًا جذريًا، إذ انبهرت بالشرق، فتعلمت الرقص، وأتقنته.
بعد انفصالها عن زوجها رحلت إلى باريس، باسم “ماتا هاري”، الذي يعني بالأندونيسية “نجمة الصباح”، لتعمل راقصة على خشبات المسارح الفرنسية، وتعاشر كبار الشخصيات السياسية والعسكرية، فتخلت عن شخصيتها الأوروبية واصطنعت لنفسها سيرة حياة جديدة عدت فيها أنها مولودة في الشرق واحترفت الرقص منذ طفولتها. لكنها عند وقوع الحرب العالمية الأولى وجدت نفسها بلا مورد، فعادت إلى هولندا، وطنها الأصلي لتجد أمامها القنصل الألماني الذي جندها ضد الفرنسيين، وطلب منها العودة إلى باريس، لكنها وقعت في حب ضابط روسي وقررت الزواج منه، ومن أجل المال اتصلت بالمخابرات الفرنسية لتصبح عميلة مزدوجة بين ألمانيا وفرنسا، وبعد أن اكتشف الفرنسيون أمرها اعتُقلت وحوكمت لعدة شهور، ثم أُعدمت رميًا بالرصاص في 15 سبتمبر عام 1917.
لم يكن “باولو كويللو” إلاّ وفيًا في نقل حياة “ماتا هاري” إلى قرائه في العالم، فابتكر رسائل كتبتها البطلة إلى محامي الدفاع ليسلمها إلى ابنتها التي لم ترها إلاّ حينما كانت صغيرة، وذلك قبل الأسبوع الأخير من إعدامها، فكان خياله خصبًا في سرد حياة البطلة كخصوبة بذور التوليب التي احتفظت بها “ماتا هاري” هدية من أمها قبل وفاتها. لم يستخدم الكاتب أزهار التوليب عن عبث، إنما لأنها تعيش حياتين متناقضتين، حياة باسقة، فوق التربة، بأزهار متعددة الألوان وحياة أخرى تحت التراب عبارة عن أبصال تبقى حية بعد موت الأزهار كي تنتج موسمًا آخر “من الموت تولد الحياة”، هكذا جمع الكاتب بين المتناقضات في الطبيعة الإنسانية من إدراك للذات تارةً وإنكارها تارةً أخرى، فكانت حياة البطلة شبيهة بحياة التوليب، فقد مات جسدها في معاشرة الرجال من أجل أن تبقى على قيد الحياة.
بحث الكاتب عن أسرار المرأة، وكل ما يدور في دواخلها، وترجمه بأفعال وتصرفات مختلفة، وعرف كل ما يؤثر في حياتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، فكان الاغتصاب ونضب الاقتصاد والقيود التي يفرضها المجتمع والدين على المرأة، هي السبب في قبولها بأي عمل يجعل منها عضوًا فاعلًا في الحياة، حتى لو كان هذا العمل مرتبطًا بالجنس “البورنوغرافي”، أو بالتجسس.
لم يبتعد “باولو كويللو” كثيرًا عن روايته السابقة “الزانية”، أو رواية “إحدى عشرة دقيقة” فكانت البطلة الزانية “ليندا” التي تمارس الجنس شبه الحيواني هي نفسها التي تؤدي دور المرأة الحكيمة والواعظة الأخلاقية، وبطلته الجاسوسة كذلك الأمر، جاء في الصفحة 25 من الرواية عندما سألتها إحدى الراهبات المشرفات على السجن “لو منحكِ الله فرصة ثانية، هل كنتِ لتقدمي على غير ما أقدمتِ عليه؟ قالت: نعم، لكني لا أعرف تمامًا. كل ما أعرفه أن قلبي مدينة أشباح يأهلها الشغف والحماسة والوحدة والخزي والعزة والغدر والأسى. ولا يسعني أن أتحرر من أي منها، حتى وأنا أُشفق على نفسي وأنتحب بصمت، أنا امرأة ولدت في الزمن الخطأ، ولا يمكن فعل أي شيء لإصلاح ذلك”.
“ماتا هاري” الفتاة المعنفة في سن المراهقة، اغتصبها مدير مدرستها الداخلية، حلمت بالشهرة ولم تأبه للثمن الذي دفعته من روحها التي ماتت في معاشرة الرجال وجسدها المهدور في مجتمع ذكوري يعد وجود المرأة خطيئة كبرى، جاء في رسالة محامي الدفاع الذي وقع في حبها، وقد وجهها لها قبل إعدامها بيومٍ واحد: “كنتِ ضحية لخطيئة أنك امرأة، وللخطيئة العظمى أنك حرة، وللخطيئة الجسيمة في التعري، وللخطيئة الخطرة في مخالطة رجال احتاجوا لصون سمعتهم بأي ثمن” ص 132.
الحقبة التاريخية التي عاشت فيها البطلة، هي حقبة معقدة، حقبة الحروب والثورات الداخلية في أوروبا، حقبة كان فيها النظام البطركي لا يزال يسيطر على المجتمع والسياسة، والثقافة والأخلاق، والدليل هو وجود الراهبات المشرفات على السجن ووجود الكاهن في لحظة الإعدام.
ومن الجدير بالذكر أن الكاتب استحضر العديد من القصص والأساطير المعبرة عن الحب والتضحية من أجله والمنتهية بموته، فكان بعيدًا هذه المرة عن مواعظه الشهيرة في أغلب أعماله: “لكي نعرف السلام في السماوات، علينا أن نعرف الحب على الأرض، من دونه نحن بلا قيمة”
وحسب تقديري كان قاصدًا هذا الابتعاد، تماشيًا مع زمان ومكان الرواية، ومع طبيعة الحدث الذي لم يحدث، إذ لا شيء يؤكد تورط البطلة في التجسس، ومع ذلك أُعدمت لأنها ليست مواطنة فرنسية بالدرجة الأولى، وحرصًا على النموذج الذكوري الذي هدرت كرامته بمعاشرتها. أعدمت ماتا هاري لأنها امرأة حرة، انحنت لها رؤوس الرجال، على نحو ما أعدم الضابط الفرنسي دريفوس، لأنه يهودي، فهز إعدامه الضمير الفرنسي، ممثلًا بإميل زولا وكتابه “إني أتهم”، وقد شارك فيه عدد من المثقفين الفرنسيين، أو على نحو ما اتهم البروتستنتي كالاس بقتل ابنه زورًا، لأنه بروتستنتي، فتبنى قضيته فولتير، باسم فكرته عن العدالة.
“ماتا هاري” قضت حتفها وهي باسقة وشامخة بكل أناقتها وملابسها الفاخرة.
“باولو كويللو” دومًا يحفر هنا، “المكان ليس بعيدًا احفر هنا”، في الذات الانسانية، فيكشف عن المسكوت عنه، ويعتبر المرأة ذات حرة ومستقلة بذاتها.
في مقتطف من حوار أجرته الوكالة الخاصة بالكاتب بالتعاون مع مؤسسة “كنوبف” البريطانية حول الرواية نشرته جريدة الحياة، يقول “كويللو”: “أكثر ما فاجأني هو الطريقة التي نجحت فيها امرأة جرى تعنيفها حتى سن العشرين، في تخطي الوضع الذي عاشته والتحول إلى ما أصبحت عليه”… “لقد وضعت نفسي مكان ماتا هاري، بعد أن بحثت عن حياتها في الأنترنت وكتبت روايتي”.
ترى من ينتصر للمعنفات السوريات وغير السوريات في شرق المتوسط؟ أين إميل زولا وفولتير وباولو كويلو؟
[sociallocker] [/sociallocker]