قتل الآباء!!


محمود الوهب

ذات يوم، وكنت في دمشق أحضر ندوة عن الرواية، جرت حادثة، ربما كانت صغيرة أو عادية، لكنَّ أهميتها تأتي من دلالتها على ما أكتبه الآن، وتتلخص الحادثة بهجوم أحد المنتدين على من أسماهم بالآباء من الأدباء الكبار الذين، بحسب دعواه، يسدون منافذ الانطلاق أمام جيل كامل ممن يودون التنفس من الشباب؛ بما لديهم من أدب جديد، وقد قال بالحرف: “قولوا عنّا أبناء حرام، أبناء زنى، قولوا ما شئتم، لكننا نريد القطيعة مع الآباء، بل سنقطع مع هؤلاء الذين لم يعودوا نافعين”. وأعطى مثالًا عن مجموعة نجيب محفوظ القصصية قبل الأخيرة، وهي في ما أظن «أصداء السيرة الذاتية»، فهي باعتقاده لا تصلح للنشر، بل قللت من شأن كاتبها! وقال كلامًا آخر من هذا القبيل، ثمَّ أنهى حديثه بضرورة موت هؤلاء، أو بقتلهم، وذكر فيمن ذكر، نجيب محفوظ، وربما حنا مينه، عندئذ نهض الروائي المصري خيري الشلبي من مكانه، وكان على المنصة، احتجاجًا، إذ هو ضيف على الندوة، وأخذ يردد وهو يغادر القاعة استهجانًا واستنكارًا:

“لأّه.. ده تجديف بأه» (لا، هذا تجديف!) ومعلوم أنّ كلمة التجديف تعني الكفر.

الآن وقد أتت أحداث جعلت هؤلاء الشباب يكتبون عصرهم ووقتهم بروح جديدة فعلًا.. وإذا كان بعضهم قد أظهر قبل هذه الأحداث نوعًا من التميز غير المرئي على نحو كاف، فإن أحداث الربيع العربي بتنوع مظاهره وعمق أبعاده، وبمساهمة مباشرة من هؤلاء الشباب، وبما جرَّ على الناس من ويلات قد دفع أولئك الشباب وفنونهم إلى الواجهة في الوقت الذي توارى فيه من لم تأت عليه من الكبار حوادث الدهر من عجز أو من عدم قدرة على استقبال القادم (الملتبس).

بداية لابد من الإشارة إلى أن هذه العجالة لا يمكنها أن تفي الموضوع حقه، فما هي إلا إشارات عابرة نقتطف نماذجها من هنا وهناك. وإذا كان الشعر سيد التعبير الأدبي لم يزل، فلم لا تكون منه البداية؟!

وإذا كان الشباب -أيضًا- منشغلين على الدوام برصد مشاعرهم الخاصة، وبمتابعة حالاتهم العاطفية، وقضاياهم الفردية، فإننا نرى بعضهم، هذه الأيام، منهمكًا كليًا بالهم العام، وبمراقبته لما يجري من أحداث تتالى وتتلاحق في وطنه، والحديث هنا عن الشباب السوريين الذين عدوا أنفسهم رواد هذه الثورة التي، وإن شوهتها العسكرة، وعتوُّ القديم ولا أخلاقيته، ما تزال مستمرة بل إن كل ما جرى يؤكد استمراريتها حتى تحقق أهدافها وأحلام الشباب في الحب والحرية!

لنقرأ الشاعرة “وداد نبي” وهي تمزج بين مشاعرها الذاتية ورؤيتها للواقع المؤلم، بين الحياة الآمنة التي تأتي بالحب والفرح، وبين الحرب التي لا طريق لها إلا على الموت والخراب:

الأفق ضيق وحافل بالموت

والمسافة بين قلبي والرصاصة ضئيلة

كالمسافة بين فمي وقبلتك

بين يدي ووردتك

بين رأسي وذراعك

الأفقُ ضيقٌ ومدججٌ بالقذائف

ووحده «الحب» حينما يضمنا لقلبه «كغزلانٍ شاردة»

يوسع العمر والروح والأفق بالمدى..

في قصيدة أخرى لها، ترى الشاعرة أن كثيرًا من الأحياء والأشياء تولد، ويعتريها الفساد؛ فتذبل وتفنى. بيد أن الحرية باقية أبدًا، باقية بدفئها، بألقها، بسريان نشوها الذي يبقى ما دام في الإنسان نفحات من روح، هي كما القبلة التي تظل ندية على الشفاه تبث الروح نشوها المستمر: “وحدها الحرية/ تبقى طازجة كقُبلةٍ أولى/ لا تفسد.”

والحرب ماذا تفعل الحرب؟! إنها تخرب الأشياء، تشوهها، تحفر أخاديد في النفوس والأرواح، لكنها، أبدًا، لا تستطيع انتزاع حب الوطن من قلب الشاعرة: “أحبها تلك البلاد، حتى في خرابها الأخير.”

أما الشاعرة علاء السردي التي امتد السوريون المهجَّرون إلى بلادها، فأتت على أحزانهم، لنتابع هذا المقطع الشعري، ونر إلى بلاغة سرده، وإلى صوره التي تتسربل بالجديد في تعبيره عن مأساة السوريين، وعن تضامنهم في ما بينهم، فهي تبارك الحب في أرقى تجلياته الإنسانية: في حالة الشهيد، وفي سعي أبطال الإغاثة، نساء ورجالًا، تحت غبار الموت، وفي دهشتها من الأطفال وقد فوجئوا بأنفسهم رجالًا:

“سلامٌ على من ماتوا وهم يحبون..

على امرأةٍ تحوك من شَعرِها خيمةً للنازحين..

على طفلٍ يرتدي عشرين عامًا تحت كنزته الصوفية..

على رجلٍ إذا اشتد العشقُ عليه..

اقتلع من كفيهِ عشرَ شمعاتٍ.. لينيرَ للأحرارِ أسماءهم..

أيها الممتدونَ في كلِ أرض..

لا تستريحوا من الحبْ..”

فكم هو جميل هذا الحب الذي يتجلى عملًا دؤوبًا للوطن والإنسان!

أما في القصة القصيرة جدًا، هذا الجنس الأدبي الذي فرض نفسه على كثير من الكتاب، وعلى المحدثين منهم خصوصًا، ويبدو أن عصرنا الموسوم بالسرعة وتنامي الإبداع البشري، عصرنا الذي أخذت الأشياء تتساوى فيه وتتمازج، قد رعى هذا الجنس الأدبي الذي لاقى ما لاقى من أخذ ورد، كحال شعر التفعيلة في بداياته، ثم قصيدة النثر ثانية فمن قائل: إنه ليس جديدًا على أدبنا، فهو موجود في قديمه وحديثه، ويأتون لك بالأمثلة من هنا وهناك…! ما يهمنا هنا ما كرسه الأدباء في ما يخص الحرية والحرب والتجربة السورية، وسأكتفى بالحديث عن الشاب مصطفى تاج الدين الموسى الذي سرق الأضواء منذ مجموعته الأولى “قبو رطب لثلاثة رسامين” التي فازت بجائزة الشارقة، أمَّا الآن فقد صدرت له مجموعة ثانية هي: “مزهرية من مجزرة” عن دار بيت المواطن/ دمشق. وصدر له العام الماضي “الخوف في منتصف حقل واسع” ولعلّ قصص المزهرية هذه خير ما يروي الأحداث المبللة بالدم والغبار في إطار ثياب فنية ملائمة ومستحدثة، في وقت رأى فيه كثير من الأدباء أن ما يحدث عصي على الفن، فوقائع ما يحدث أبلغ من أي كلام، ولعل بعضهم الآخر، ينتظر وقتًا ما لتختمر هذه الأحداث في ذهنه وروحه، وربما أُرتِج على كثيرين من هول ما رأوا، فلم يفيقوا من صدمتهم بعد.

لم يترك مصطفى حالة رآها أو سمع بها إلا ونسج منها قصة أتت لوحة مبهرة في سحر فنها، وأداء دورها في روح القارئ وذهنه، يقظة وإحساسًا بقذارة الحرب وإدانتها والانحياز لما هو إنساني. فكتب ألوان الموت وأشكاله البشعة، وصاغ بحبره الأسود طباع العسكر وصلافتهم، ولؤم الطغاة وأحقادهم، صاغهم ليلًا أسود ثقيلًا وطويلًا.! أتى على الجرحى والأشلاء، على النساء والأطفال يأتيهم الموت وهم في أوج فيضهم الإنساني. أتى على الحواجز والقذائف، والكثير الكثير من مفردات الحرب! ولأن القصة القصيرة جدًا يصعب اختزالها، سأستشهد بواحدة من قصص مصطفى؛ خاتمةً لهذه الإطلالة العجلى على حيز ضيق من أدب الشباب، وأقول حيزًا لأنني لم أتعرض للمسرح، ولا للرواية أو القصة القصيرة، على الرغم من خوض جيل الشباب فيهما. كذلك أبدع الشباب في الفن التشكيلي والكاريكاتوري على وجه الخصوص، ولا يفوتني هنا، الإشارة إلى الأهازيج المعبرة التي كان المتظاهرون ينظمونها ارتجالًا، وكان لها فعلها المؤثر في وجدان الشعب، وكم كانت تغيظ أجهزة النظام. أعود لأختم بقصة مصطفى الموسى المعنونة بـ: “بقايا ذاكرة” التي تشير إلى روح الكاتب، وهي تعانق أرواح الشهداء، تلاحقهم، تتحسس مشاعرهم، هواجسهم، فالشهداء من الأطفال لم يعيشوا، بعد، حياتهم، حبهم، إذ إن المجازر أطبقت عليهم مبكرًا.. وللقارئ أيضًا حرية التأويل والاستمتاع؛ ففضاء القصة واسع:

“في أية مجزرة شاهدتك؟! بكثير من الحيرة والتخمين، روح طفل سألت روح طفلة في محطة للقطار على حافة السماء الخامسة! روح الطفلة لم تجب، بصمت باحت بدمعة، فهي منذ سماءين قد اختلطت عليها المجازر.”

أخيرًا: إنها مجرد لقطات من إبداع الشباب الذي فرض وجوده، وأخذ مكانته، من غير قسر ولا إكراه!




المصدر