ترشيد الاستيراد في سوريا ..باب آخر لزيادة التهريب والاحتكار


 

تعرض القطاع الإنتاجي في سورية لضرر كبير جعل من التوجه للاستيراد أمراً محتماً لا يمكن تجاهله وذلك لتغطية النقص في المنتجات ضمن الأسواق ولتلبية متطلبات ما تبقى من معامل وشركات، إلا أن الكثير من إجراءات حكومة النظام شكلت عائقاً كبيراً أمام هذه الضرورة الحتمية بحجج لا تمس للواقع أو للمنطق الاقتصادي بأي صلة، ففرضت وزارة الاقتصاد منذ بدء الثورة آلية لترشيد الاستيراد تقضي بمنع استيراد سلع معينة مقابل السماح باستيراد سلع أخرى، واستمرّ العمل بهذه الآلية إلى يومنا هذا مع تبدلات وتغيرات تطال المواد في هذه القوائم بين السماح والمنع، فتارة يمنع استيراد التمور وبشكل مفاجئ، وتارة يُسمح باستيراد طعام الكلاب والقطط، وتارة أخرى يمنع استيراد الذرة الصفراء كما هو الحال حالياً ليسمح باستيراد المشروبات الروحية والعطور الفاخرة.

 

ضمن السياسة التي أسمتها حكومة النظام “ترشيد الاستيراد” قامت بقصْر الاستيراد على المواد الأساسية، لاسيما الغذائية منها دون الكماليات وذلك بذريعة الحفاظ على القطع الأجنبي الموجود، خاصة وأن مصرف سوريا المركزي هو من قام بتمويل المستوردات لفترة معينة. بالإضافة لمنع التجار من الحصول على إجازات استيراد لسلع لا تحتاجها الأسواق من وجهة نظر الحكومة، وذلك خشية هدر القطع الأجنبي.

غير أن قضية إجازات الاستيراد شكلت محور تجاذب بين التجار والصناعيين في سوريا، فالتجار يطالبون بفتح الاستيراد لجميع المواد بما فيها الكمالية، في حين يطالب الصناعيون بمنع استيراد أي سلعة لها شبيه محلي وذلك حرصاً على المنتج المحلي، وبين هذه التجاذبات يكمن “الشيطان”، فوزارة الاقتصاد تسمح وتمنع وبشكل مفاجئ دون أي سبب مقنع، فهي تسمح لتجار معينين باستيراد سلع معينة دون غيرهم، وهذا ما نجده في استيراد مادتي السكر والأرز وحتى الزيوت، وطال ذلك أيضاً مادة الأعلاف التي يحتكر استيرادها تاجران فقط في سوريا، في حين لا تمنح أي إجازة استيراد لغيرهما، وهذا ما يشي بوجود فساد واضح بقضية إجازات الاستيراد.

 

 

تهديد يواجه الشركات الصناعية

أحد المستوردين لفت إلى أن إجراءات وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لم تعد مفهومة، ويمكن القول أن “هناك خيار وفقوس” بمنح إجازات الاستيراد، سواء من قبل الوزارة أو من قبل مديريات الاقتصاد العاملة في المحافظات، “فهل يعقل أن يتم منع استيراد الذرة الصفراء التي تدخل في العديد من الصناعات، والأكثر غرابة أن قرار المنع كان مفاجئاً، ولم يتم إعلامنا به إلا بعد أن تم التعاقد مع الشركة الخارجية ووصول الشحنة للمرافئ السورية”، يقول المستورِد ويشير إلى أن منع استيراد الذرة الصفراء الجافة دفع بسعرها من 350 ليرة للكيلو إلى 600 ليرة حالياً، متسائلاً: هل تريد الحكومة أن تدفع برجال الأعمال لنقل أعمالهم لخارج سوريا؟.. هل هذا هو التشجيع والدعوات للعودة إلى الوطن والعمل به”؟..

ويبيّن مستورِد آخر أن وزارة الاقتصاد في حكومة نظام الأسد منعت استيراد التمور، ومن المعلوم أنه لا يوجد بديل محلي للتمور، ولا يمكن الاستغناء عنها، وهي تدخل في العديد من الصناعات التي يتم تصديرها للخارج، عدا عن الاستهلاك المحلي لها، إلا أن وزارة الاقتصاد لم تأخذ بكل هذه المعطيات ومنعت استيرادها ضاربة عرض الحائط بمصالح عشرات المعامل والكثير من المحال التجارية التي تعيش على بيع التمور في دمشق وبقية المحافظات، وهذا من شأنه أن يهدد بزيادة معدلات البطالة، وإغلاق المعامل الصناعية.

ولا يمكن أيضاً إغفال قضية منع استيراد المواد الأولية الداخلة في صناعة “الأندومي” والتي أثارت ضجة إعلامية كبيرة خلال الشهرين الماضيين، حيث منعت وزارة الاقتصاد استيراد “بهارات” الأندومي التي تدخل في صناعتها من السعودية التي تعتبر الدولة الثانية فقط في إنتاج هذه البهارات الخاصة بالأندومي، وطال المنع منتج يعرفه السوريون صغاراً وكباراً ألا وهو بطاطا “ديربي”، حيث توقفت هذه الشركة عن الإنتاج نتيجة منع استيراد رقائق البطاطا وبعض مكوناتها، ما جعل الكثير من العمال يفقدون عملهم.

 

 

فوضى ومزاجية

لكن بالمقابل نجد أن وزارة الاقتصاد تسمح لتجار معينين باستيراد الأدوات الكهربائية “الكمالية” وتمنع آخرين من استيرادها، وفق قول أحد التجار في تصريح خاص، الذي أكد أن “أديب ميالة” لا يفقه من الاقتصاد شيء، “فعندما كان في مصرف سوريا المركزي شهد سعر الدولار ارتفاعات كبيرة حتى أنه بلغ 600 ليرة للدولار، عدا عن بيع مئات الملايين من الدولارات عبر شركات الصرافة دون أي سببه وجيه، أو غاية اقتصادية”، وعندما انتقل إلى وزارة الاقتصاد ها هو يبدأ بـ”التخبيص” والمنع والسماح بشكل كيفي ومزاجي، حتى أنه جلب فريق عمله معه إلى وزارة الاقتصاد، قام بتعيين معظم مدرائه الذين كانوا معه في المصرف المركزي كمدراء في وزارة ومديريات الاقتصاد، وآخرهم شادي جوهرة الذي كان مديراً في المصرف المركزي، وتم تعيينه كمدير عام للمؤسسة العامة للتجارة الخارجية التي تمثل الذراع الحكومي للاستيراد، لتكتمل الحلقة وليصبح فريق البنك المركزي في وزارة الاقتصاد بغض النظر عن الكفاءات.

 

 

الفساد بات منظماً

لقرارات منع الاستيراد تأثيرات اقتصادية واجتماعية، فقد أشار باحث في شؤون التجارة الخارجية بتصريح خاص إلى أن الحجج التي تضعها وزارة الاقتصاد في ترشيد الاستيراد غير منطقية، فالواقع يقول أن هناك آلاف المعامل خرجت عن الإنتاج، وبالتالي يوجد نقص بالسلع ضمن الأسواق، وتعويض هذا النقص لا يمكن محلياً، لذا كان الاستيراد ضرورة فرضها الواقع وذلك رغم صعوباته نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على الاقتصاد السوري.

كما يجب عدم إغفال حقيقة أن إعادة الأمن والاستقرار إلى المناطق من شأنه أن يرفع فاتورة الاستيراد، فهذه المناطق تحتاج إلى تأهيل ومعدات ومواد أولية، سواء لحكومة النظام نفسها أو للمواطنين الذين سيقومون بترميم منازلهم، وكلما اتسعت رقعة الأمان زادت فاتورة الاستيراد، فهل استوعبت وزارة الاقتصاد ذلك؟..طبعاً لا، لأنها لو استوعبت ذلك لما وضعت برنامجاً لترشيد الاستيراد عزز التهريب والاحتكار، فمنع استيراد سلع معينة جعل من بعض الصناعيين الكبار يتحكمون بأسعار السلع التي لا بديل لها من ضمن  المستوردات رغم رداءة جودتها.

كما أن منع الاستيراد دفع بالعديد من التجار لتهريب سلعهم وموادهم الأولية وإدخالها عبر الحدود بشكل غير نظامي، بالإضافة إلى تكريس ثقافة الفساد في منح إجازات الاستيراد، فلماذا يتم منح تجار بعينهم دون غيرهم إجازات لاستيراد السكر؟..ورغم نفي وزير الاقتصاد هذا الأمر، فهذا النفي مردود عليه، لأن الواقع يشي بغير ذلك، وينطبق هذا الأمر على الكثير من المواد المهمة للقطاع الصناعي والزراعي والغذائي وحتى المقاولات والبناء، فالفساد بات منظماً ومقونناً، ولا يمكن تسوية هذا الأمر إلا عبر فتح المجال للاستيراد دون منع لأي مادة سواء كانت كمالية أو أساسية، وتبقى المنافسة هي سيدة الموقف، فالصناعي المحلي إما أن يقوم بتطوير منتجه وتخفيض سعره وجعله ذو جودة جيدة، وإما أنه سيتعرض لخسائر نتيجة وجود منتج منافس له.

 

سوء إدارة ملف التجارة الخارجية

وأضاف الباحث:” ليس للاستيراد علاقة بالقطع الأجنبي وزيادة الطلب عليه، والدليل على ذلك ارتفاع سعر الدولار إلى 600 ليرة رغم أن ترشيد الاستيراد مُطبّق وبشكل مجحف؟ فالواقع يقول أن معظم التجار كانوا وما يزالون إلى الآن يمولون مستورداتهم بطرقهم الخاصة، وليس من المصرف المركزي، وذلك نتيجة الإجراءات الروتينية الطويلة لمنح تمويل الاستيراد، وقد يأتي مع عدم الموافقة، لذا نجد أن معظم التجار لجؤوا إلى تمويل مستورداتهم بطرقهم ومن حسابهم الخاص.

بالمقابل نجد أيضاً أنهم يدفعون الرسوم والضرائب على هذه المستوردات للخزينة العامة، أي أن الاستيراد من شأنه أن يحقق عائداً مجزياً للخزينة..أليس ذلك بأفضل من إدخال السلع تهريباً دون رقابة أو رسوم؟..حالياً أسواقنا ممتلئة بالسلع المهربة بدءاً من الفروج ونهاية بالعطور والمياه المعدنية الفرنسية..ألم تسأل الجهات الرقابية من أين تأتي هذه السلع؟…والأهم من ذلك لماذا تدخل هذه السلع تهريباً؟ ولماذا لا يتم إدخالها بطرق نظامية؟..الجواب عن هذه الأسئلة كلها هو بهذه العبارة…سوء في إدارة ملف التجارة الخارجية على صعيد الاستيراد والتصدير”.



صدى الشام