‘د.السيد ولد أباه يكتب: الأخبار الزائفة والوقائع البديلة’
6 شباط (فبراير - فيفري)، 2017
د.السيد ولد أباه
في ألمانيا بدأت مشاورات برلمانية لإصدار قانون يعاقب على بث معلومات كاذبة في مواقع التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي تسعى فرنسا إلى استحداث آلية لرقابة مضامين هذه المواقع للغرض ذاته، وفي بريطانيا مبادرة مماثلة معروضة على «مجلس العموم» البريطاني، بينما يعمل الاتحاد الأوروبي على إصدار تشريع ملزم لأعضائه في الموضوع نفسه. هذه المبادرات برزت في مرحلة كثرت فيها الاتهامات لمواقع التواصل الاجتماعي بالضلوع في عملية تزوير الانتخابات والتأثير فيها من خلال بث الأخبار الكاذبة التي تؤثر في الرأي العام الذي لم يعد تؤثر فيه الصحف الجدية والبرامج الحوارية ذات المنهجية البرهانية.
في هذا السياق، ظهرت على السطح اصطلاحات جديدة في الحقل الإعلامي تم تداولها على نطاق واسع، أبرزها عبارات ثلاث هي «الأخبار الزائفة» fake News و«الوقائع البديلة» alternative facts و«ما بعد الحقيقة» post- truth. عبارة «الأخبار الزائفة» اشتهرت بعد أن استخدمها الرئيس الأميركي الجديد «ترامب» في مؤتمره الصحفي الأول في هجومه على وسائل الإعلام السيارة، وإنْ كان الأمر يتعلق في الواقع بظاهرة أثارت اهتماماً كبيراً في الدراسات الإعلامية والاجتماعية، خصوصاً في تحليل الخطاب السياسي وأثره الانتخابي. من هذا المنظور، أثبتت التحقيقات التي قام بها بعض الباحثين أن المرشحين الأميركيين للرئاسيات الأخيرة (ترامب وهيلاري كلينتون) استخدما في حملتيهما سلاح «الأخبار الزائفة» بالاستناد إلى مصادر غير موثوقة هي في غالبها مواقع إلكترونية، أما «الوقائع البديلة»، فهي عبارة استخدمتها «كيلان كونوي» مستشارة الرئيس الأميركي الجديد، للرد على من اتهم الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض بتزييف الواقع بتضخيم عدد من حضروا حفل تنصيب الرئيس ترامب، معتبرة أنه في بعض الأحيان يكون من المبرر عدم الانسجام مع الواقع بخلق أحداث بديلة عنه. أما عبارة «ما بعد الحقيقة» (التي توقفنا عندها في مناسبة سابقة)، فتعني حسب قاموس أكسفورد الذي دخلته السنة الماضية:«ما يحيل إلى بعض الظرفيات يكون فيها للوقائع الموضوعية تأثير أقل في صياغة الرأي العام من تأثير نداء العاطفة والمواقف الشخصية».
ما نريد أن نبينه هو أن هذه المقولات التي تحيل إلى الظاهرة ذاتها (انفصام الخبر عن الواقع)، هي نتيجة عاملين مترابطين هما: القطيعة بين النخب والقاعدة الشعبية وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي في مقابل انحسار الإعلام التقليدي. ليست ظاهرة التزييف والاختلاق في السياسة بالأمر الجديد، والمعروف أن «أفلاطون» اعتبر في عصر الديمقراطية اليونانية أن معايير العدل المبنية على الحقيقة والعقل لا يمكن أن تنشأ في نظام سياسي يجعل من التداول أو النقاش العمومي إطاراً مرجعياً للرأي والقرار، باعتبار أن مثل هذا المجتمع سيتحكم فيه «السوفسطائي»، الذي يتقن لغة الخطابة والإثارة التي هي أداة إقناع العامة. إنه النقد نفسه الذي وجهته النظريات النقدية الراديكالية في العصر الراهن للديمقراطيات البرلمانية المعاصرة بصفتها تقوم على «صناعة التواطؤ» عن طريق الإعلام الذي يبدو حراً، في حين أنه يصنع الوعي ويوجهه.
بيد أن الجديد في الأمر هو انهيار وسائط التواصل العمومي التي بلورتها الديمقراطيات الحديثة، وهي وسائط ثلاث رئيسية: الحزب السياسي بصفته الإطار التعبوي والتنظيمي للعمل السياسي، والصحيفة التي هي المصدر الإعلامي ومجال النقاش وتدافع الأفكار والبرامج، والمؤسسة المنتخِبة التي هي دائرة التمثيل ومصدر القرار. انهيار الأحزاب فسح المجال للزعامات الشعبوية المنفلتة من كل ضوابط تنظيمية وهي الوجوه الصاعدة راهناً في أغلب البلدان الديمقراطية، وانحسار الصحافة فتح الباب للإعلام الاجتماعي غير الخاضع للرقابة والتحقق الذي يعكس الانفعالات والعواطف لا الأفكار والآراء المؤسسة بُرهانياً، وتآكل الأنظمة التمثيلية أضعف قدرة الناخب على التأثير في القرار الذي يتحكم في مصيره. في مقالة متميزة بعنوان «الحقيقة والسياسة» تعود لبداية الستينيات من القرن الماضي، تذهب الفيلسوفة الألمانية – الأميركية «حنة آرندت» إلى القول إن الحظوظ ضئيلة في الاحتفاظ بالحقيقة في مواجهة السلطة، متسائلة في حس استباقي غريب: ما الذي يمنع الحكايات والصور والأحداث الافتراضية الجديدة أن تصبح بديلًا مناسباً للواقع والأحداث؟
المصدر: الاتحاد
د.السيد ولد أباه يكتب: الأخبار الزائفة والوقائع البديلة على ميكروسيريا.
ميكروسيريا –