إنتاج يبحث عن أسواق .. الحمضيات في سوريا.. “ثروة” زراعية مهدورة بالإهمال والوعود


 

موضوع الحمضيات وتسويقها قديم متجدد في كل موسم، حيث تصدح وسائل الإعلام التابعة للنظام بالحديث عن الحمضيات والجهود المبذولة من حكومة النظام في تسويقها، إلا أن أرقام الخسائر وحتى التسويق تخالف الكلمات البراقة التي يدلي بها المسؤولون في كل اجتماع لهم عن الحمضيات، ويبقى الفلاح في كل موسم يغذي أمله من تلك التصريحات “الخلبية” التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا الموسم لم يكن أفضل حالاً من المواسم السابقة، وثمار الحمضيات ماتت على الأشجار، وتساقطت على الأرض دون أدنى اهتمام رسمي.

تشكل زراعة الحمضيات مصدر دخل وحيد لآلاف الأسر السورية وخاصة في الساحل السوري (اللاذقية وطرطوس)، وتصل المساحة المزروعة في اللاذقية وحدها إلى 33 ألف هكتار تحوي 10.550 ملايين شجرة، قُدّر إنتاجها لهذا الموسم بـ772 ألف طن، وتقوم على خدمتها ورعايتها 60 ألف أسرة، وما زال التوسع في الزراعة مستمراً رغم فائض الإنتاج الذي لم يجد إلى الآن أسواقاً مستقبلة له.

وتشير الإحصاءات التي نشرت خلال كانون الأول من العام الماضي إلى أن 50% من إنتاج الحمضيات هو فائض عن الحاجة المحلية، أي أن نصف ما ينتجه الفلاح من الحمضيات زائد عن طلب السوق المحلية، وهنا نطرح سؤالاً: على من يقع اللوم في تلف مواسم الحمضيات وصعوبة تسويقه للأسواق المحلية والخارجية؟

 

السوق السوداء والسماسرة يبتلعان أرباح المزارعين

“أبو غالب” فلاح يزرع الحمضيات لفت في تصريح خاص إلى أن حكومة النظام قامت خلال الموسم الحالي بوضع أسعار تأشيرية للحمضيات بالنسبة للمزراعين، حيث شملت الأسعار “الليمون الحامض بأنواعه 80-90 ليرة، أبو صرة 45 -55 ليرة، بلانسيا 45 – 55 ليرة، بلدي 40 -45 ليرة ساتزوما 55 -75 ليرة ، كليمنتي 55 – 70 ليرة، الكريفون 45 – 55 ليرة، ماوردي 55 – 60 ليرة”.

ولكن هذه الأسعار وفق ما أكده أبو غالب لا تغطي التكاليف الأساسية للإنتاج، فحالياً معظم الفلاحين يشترون مستلزمات الإنتاج من السوق السوداء بأسعار تصل لضعفي أسعارها النظامية، وخاصة بما يتعلق بالأسمدة والمحروقات، كما أن فرض الضرائب على تصدير هذا النوع من المنتجات الزراعية رفع من تكاليف المنتج وجعله غير مجدٍ اقتصادياً لتصديره، عدا عن تحكم تجار سوق الهال بأسعار المنتجات، وفرضها على الفلاح، وإلا فإن الإنتاج سيبقى على الأشجار إلى أن يموت عليها.

 

اختناق التصدير

وأكد هذه الرؤية باحث في الشؤون الزراعية رفض الكشف عن اسمه لـ صدى الشام وقال: “أسعار البرتقال في الأسواق حالياً لا تقل عن 150 ليرة وترتفع إلى أكثر من 200 ليرة للكيلو الواحد وذلك حسب نوعه، وهنا نجد أنه رغم كون هذا المنتج محلي وهناك فائض كبير في الإنتاج فإن أسعاره ليست رخيصة، ويعود هذا الأمر أولاً لارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج بالنسبة للفلاح، وثانياً لتحكم التجار والسماسرة بالمحاصيل، حيث تكون الحصة الأكبر من الأرباح لهم، في حين أن الفلاح قد يتعرض للخسائر في كثير من الأحيان نتيجة تلف محصوله أو بيعه بسعر يحقق له نفعًا ماديًا قليلًا مقابل جهده طوال الموسم”.

ولفت الباحث إلى أن زراعة هذا المحصول لا تنتهي صعوباتها وذلك على الرغم من الحملات المتتالية التي قامت بها مؤسسات “التدخل الإيجابي” التابعة لحكومة النظام سابقاً وحتى اليوم لتسويق المحصول وبيعه مباشرة إلى المواطن في الشوارع، حتى أنها تقوم بطرحه بالمجان في درعا وحلب، إلا أن ذلك لم يساعد على تصريف المنتج في ظل اختناق حقيقي يعانيه الاقتصاد السوري جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، فالتصدير هو الأجدى للفلاح، إلا أن ذلك لم يحدث إلا بكميات قليلة مقابل المحصول الضخم، حيث التزم اتحاد المصدرين بتصدير 100 ألف طن، كما التزم اتحاد الغرف بتصدير 50 ألف طن، فماذا تحقق من هذه الالتزام؟ هاهي حكومة النظام  تصرح بأنها لا تزال تدرس شراء باخرة لتسويق الحمضيات!

ورغم كل الخسائر التي تعرض لها الفلاح، فإنها لا تزال تدرس..أيضاً إلى أين ستصدر هذه الحمضيات عبر الباخرة..طبعاً إلى روسيا، ولكن إلى هذه اللحظة هناك الكثير من العقبات تواجه هذا التصدير، وخاصة من حيث المواصفات المطلوبة للحمضيات، ومن حيث الأسعار أيضاً، فهي رغم كل شيء تُعتبر غير منافسة بما فيه الكفاية مقارنة بمنتجات بقية البلدان الزراعية التي تصدر للأسواق الروسية، فوفقاً للأرقام المعلنة فقد تم تصدير نحو 8 آلاف طن من الحمضيات إلى روسيا لغاية آب الماضي، في حين تم تصدير نحو 20 طناً فقط خلال الأشهر الفائتة، أي أن الأرقام المصدرة مخجلة أمام ضخامة الإنتاج المحلي.

 

الموز مقابل الحمضيات..غير كافي

أما برّاً فهناك التصدير إلى السوق العراقي، ولكنه متوقف نتيجة توتر الأوضاع على الطرق البرية، بالإضافة إلى سوق لبنان، وفعلاً قامت حكومة النظام بتصدير الحمضيات مقابل استيراد الموز، بحيث يتم تصدير 2 كيلو من الحمضيات يقابله كيلو موز واحد، وهذا هو ما دفع بأسعار الموز للتهاوي في الأسواق السورية حتى بلغ سعره 250 ليرة في كثير من الأحيان.

وبخصوص السوق الداخلية فهناك الكثير من المعوقات التي تعترض تسويق الحمضيات تتمثل بالمواصلات وصعوبة النقل وارتفاع تكاليفه، إضافة إلى غياب سوق منظم للحمضيات يحدد الأسعار الحقيقية للفلاح مع هامش ربح مجزٍ له يبعده عن تحكم تجار سوق الهال والسماسرة، يضاف إلى ذلك ارتفاع أسعار المحروقات التي تستخدم في الري وكذلك الأسمدة، وعدم وجود ثقافة استهلاكية للحمضيات، إذ أن استهلاك المواطن السوري من الحمضيات ضئيل نتيجة غياب حملات التوعية حول أهمية الحمضيات صحياً، وعدا عن ذلك كله التراخي الحكومي في معالجة تسويق الحمضيات، فمثلاً إلى الآن لم يتم إنشاء معمل عصير الحمضيات رغم الوعود الرسمية ورغم مطالبات مرّ عليها نحو 30 عاماً، إلا أن حكومة النظام لم تكترث لأهمية هذا المعمل أو إنشاء معامل أخرى الأمر الذي من شأنه لو حدث أن يؤدي لتصريف إنتاج الفلاحين وعدم تعريضهم للخسائر، بل وتصدير منتجات المعمل للأسواق الخارجية.

 

للفلاح نصيب من المسؤولية

وأكد الباحث أن المُزارع يتحمل جزءاً من المسؤولية في تسويق محصوله، وخاصة بما يتعلق بموعد القطاف ونوع المحصول ورعايته خلال دورة الإنتاج، ثم مواضيع الفرز والتوضيب والتعبئة والتغليف وقيمة العبوات ونفقات القطاف والنقل الى الأسواق من حيث الكيفية والموعد والوسيلة المناسبة التي تضمن الحفاظ على طزاجة المحصول وغيرها، وطبعاً ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بتوعية الفلاح والمزارع حول هذه القضايا، وهنا يأتي دور الغرف الزراعية ووزارة الزراعة وبقية المؤسسات والمنظمات المعنية بشؤون الزراعة، فهل قامت هذه المؤسسات بهذه التوعية؟..طبعاً لم تقم، فالتاجر الضامن للأرض هو من يشترط على الفلاح استلام محصول بمواصفات معينة وإلا فلن يقبل الإنتاج، ولكن ليس لدى معظم الفلاحين تجار يضمنون لهم الإنتاج.

 

مفهوم خطأ في التسويق

ولفت الباحث إلى قضية هامة في التسويق هي أن التسويق الزراعي في سوريا يسلك مسلكاً خطأً إلى الآن، حيث يعتمد على الإنتاج ثم التسويق، وهذا من أكبر الأخطاء في التسويق، حيث يجب أن يعتمد التسويق على استطلاع الأسواق وحاجاتها ومن ثم الإنتاج وفق متطلبات وحاجات الأسواق، وإلا فإن الهدر سيحدث والخسائر ستتراكم وهذا ما حدث ويحدث مع الفلاح دائماً وهو لا يلام كونه فلاحًا، بل اللوم يقع على الجهات المسؤولة عن الزراعة، محذراً من أن “الفلاح في حال استمرار الخسائر التي يتكبدها في كل موسم فإنه سيُقلع عن الزراعة، وحالياً شهدنا بعض المزارعين يقومون بقلع أشجار الحمضيات وزراعة الأفوكادو والدراق بدلاً عنها. فلنحذر من خسائر الفلاح الذي يطعم الشعب من إنتاجه، ولنستفد من ثروتنا الزراعية بدلاً من إتلافها بوعود حكومية رنانة لم تجد أي حل جدي لها إلى هذه اللحظة”.



صدى الشام